يسري حسان
لعل اختيار مسرح "أوبرا ملك" في منطقة الأزبكية وسط القاهرة، لتقديم مسرحية "الفندق" كان موفقاً، فهو مسرح صغير يتسع لـ70 مقعداً فقط، ويناسب العروض التي يمكن وصفها بالنوعية، بحيث لا تسعى إلى جمهور عريض وعام، يبحث عن النكتة والمواقف الكوميدية، قدر سعيها إلى جمهور خاص ومدرب على تلقي الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها، وإن كانت "الفندق" لم تغفل الحس الكوميدي بين حين وآخر.
وملك التي ينسب إليها هذا المسرح، هي زينب محمد أحمد الجندي، وشهرتها ملك محمد، أطلق عليها الكاتب المصري الشهير محمد التابعي لقب "مطربة العواطف"، مغنية وملحنة وعازفة عود مصرية (أغسطس 1902/ آب-أغسطس 1983)، كان أمير الشعراء أحمد شوقي من أكثر المعجبين بها، أسست هذا المسرح ليكون خاصاً بها عام 1941 وأطلقت عليه اسم "مسرح أوبرا ملك"، واحترق عام 1952 في حريق القاهرة الشهير، ثم أعيد ترميمه وافتتاحه منذ 10 سنوات، وأصبح مقراً لفرقة مسرح الشباب.
العرض قدمه مسرح الشباب (البيت الفني للمسرح - وزارة الثقافة) عن نص "فندق العالمين" للكاتب المسرحي والروائي الفرنسي، من أصول بلجيكية، إريك إيمانويل شميث (1960-)، ودراماتورج فادي نشأت، وإخراج محمد الطايع.
نص شهير
النص كتبه شميث عام 1999، ونشرت ترجمته في سلسلة المسرح العالمي (المجلس الوطني للثقافة والفنون - الكويت) عام 2014، وقام بها سعيد بوكرامي، وهو من النصوص الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من 40 لغة، وقدمه عشرات المخرجين العرب والأجانب، مثل غالب نصوص هذا الكاتب الفرنسي صاحب رواية "مسيو إبراهيم وزهور القرآن" ومسرحية "أوسكار والسيدة الوردية"، وغيرهما من الأعمال الروائية والمسرحية المهمة.
أضاف فادي نشأت شخصية الطفل أوسكار (آدم وهدان) من مسرحية شميث "أوسكار والسيدة الوردية" إلى الشخصيات الرئيسة في "فندق العالمين"، ذلك الطفل المصاب بالسرطان ويكتب رسائل إلى الله، باعتباره يحيا هو الآخر بين عالمين، الحياة والموت.
نحن أمام مكان يبدو خيالياً، وغير معروف كنهه بدقة، فلا هو فندق بالمعنى الحرفي، ولا هو أيضاً مشفى، هو بين بين، تماماً مثل رواده الذين يوجدون بين عالمين، فكلهم مصاب بغيبوبة نتيجة حادثة ما، هم بين الحياة والموت، لكنهم يبعثون في هذا المكان بطبيعة أخرى، لا تخالف طبيعتهم في الحياة بصورة كاملة، وإن كانت الأحداث والأسئلة وإعادة التأمل تؤدي بهم، وبالمشاهد بالتالي، إلى نوع من التغيير، فيصبحون أكثر شفافية وصدقاً.
اللون الأبيض
أدرك مصمم الديكور محمد فتحي طبيعة المكان، ومراوحته بين كونه فندقاً وكونه مشفى، اختار اللون الأبيض بنقائه وحياديته، وسماحه للعناصر الأخرى بالظهور ولفت الأنظار إليها، فضلاً عن مناسبته لمساحة المسرح الصغيرة ومنحه إحساساً بالاتساع. يمين ويسار المسرح ما يمثل غرفاً للنزلاء، بينها ممرات للدخول والخروج، وفي منتصف العمق هناك مستوى يمثل المصعد الذي يفد النزلاء من خلاله، ويرحلون من خلاله أيضاً، إما صعوداً حيث الموت، وإما هبوطاً حيث الحياة، وتم تحريك هذا المصعد الوهمي بواسطة الفيديو مابينغ (محمد المأموني) وخلف منصة الاستقبال، وكما هي العادة في الفنادق، رسم لساعات عدة من دون عقارب، إذ إن الوقت في هذا المكان غير مدرك، فلا أحد يمكنه تحديد الوقت، وهل نحن في الصباح أم في المساء.
تصميم واع، راعى طبيعة نص العرض والأجواء التي يدور فيها، وأضفى مع الإضاءة (تصميم المخرج)، وكذلك الملابس (سماح سليم) حساً جمالياً على صورة العرض.
مجموعة من الأشخاص يفدون إلى هذا المكان، كل منهم أصيب في حادثة أدت إلى دخوله في غيبوبة، لكنهم يأتون بطبيعة مختلفة، أكثر خفة ورشاقة، فأحدهم كانت لديه إصابة في ساقه تعوق حركته، لكنه لم يشعر بتأثير هذه الإصابة في حركته عند قدومه إلى المكان.
إنهم جميعاً بين عالمين، بين الحياة والموت، وهناك الطبيبة سين (أسماء عمر) التي تتلقى أوامرها من قوة لا نعرف كنهها، فلديها لكل نزيل ملف به كل شيء عنه، وعندما يحين موعد مغادرته، تأمره بالتوجه إلى المصعد، إما أن يصعد به إلى الأعلى، وإما إلى الأسفل حيث كتبت له حياة جديدة.
بوح وتطهر
إن الهدف، كما يبدو، من جمع تلك الشخصيات في هذا المكان، وهم في هذه الحالة التي تبدو أكثر صدقاً وشفافية، باعتبارهم قاب قوسين أو أدنى من الموت، هو البوح والتطهر، مراجعة ما مضى وتأمله بعمق، وطرح الأسئلة حول الحياة والموت، وما الذي سيحدث هناك في الأعلى بعد الصعود، حتى أن جوليان (محي الدين يحيى) ذلك الشاب المستهتر، الذي كان يقود سيارته بسرعة 200 كيلو، والأقرب إلى الإلحاد، وبعد أن أحب الفتاة المريضة بالقلب (إيمان الناصر) عندما يسأل هل هناك إله، تكون إجابته "ربما" بعد أن كان لا يؤمن بوجوده أصلاً، وتبدو هذه الشخصية أقرب إلى شخصية شميث نفسه، الذي تحول من الإلحاد إلى أن يصبح مؤمناً لا أدرياً، بعد أن تاه في صحراء الجزائر ووجد نفسه وحيداً فراح يتأمل في الوجود ويطرح الأسئلة على نفسه، حول الحياة والموت وخلق العالم.
هناك كذلك شخصية لاعبة الحبل منة بكر، التي انشغلت بالنجومية عن ممارسة حياتها، حتى سقطت أثناء تأدية فقرتها، فجاءت لتعيد تأمل مسيرتها والأخطاء التي وقعت فيها، والمنجم راجابور محمد هاني، الذي كان تاجراً وسافر في رحلة عمل إلى أميركا تاركة ابنته الوحيدة التي أصيبت بالمرض، ولم يستطع اللحاق بها لانشغاله في تجارته، فقرر بعدها وكنوع من عقاب الذات، هجر التجارة والعمل بالتنجيم، والخادمة (شريهان قطب)، والمدير المتعجرف (أحمد شرباس)، وغيرهم من الشخصيات التي كانت الغيبوبة سبيلاً إلى مراجعتهم لحياتهم وكيف أمضوها، والتحول الذي طرأ عليهم وهم بين العالمين.
أسئلة كثيرة يطرحها العرض بكثافة، وسط إيقاع لاهث ومتدفق، خففت الأغاني (أشعار سامح عثمان، وألحان زياد هجرس) شيئاً من حدته، وأسهمت في ملء بعض الفراغات التي تعمدها الدراماتورج، لتكون هي الأخرى أحد العناصر الفاعلة في الدراما، فضلاً عن كونها عنصراً جمالياً لافتاً.
فريق متناغم
أمضى محمد الطايع أشهراً عدة في الإعداد لهذا العرض، واستبدل بممثلين ممثلين آخرين، حتى اهتدى إلى فريق عمل يستطيع تجسيد رؤيته باحترافية، وقدرة على قراءة النص بعمق، وتحليل شخصياته ودوافعها، وهو ما تبدى في التناغم الواضح بين الممثلين، فكل منهم يمسك جيداً بمفاتيح شخصيته، على مستوى الحركة، واستخدام طبقات الصوت، وردود الأفعال، وغيرها من أدوات الممثل، وهو أمر ليس غريباً على فريق عمل غالبه من الموهوبين الدارسين، الذين تخرجوا في المعهد العالي للفنون المسرحية.
"الفندق" عرض مسرحي يضعنا أمام أسئلة فلسفية شائكة، لكنه يقدمها بنعومة، بعيداً من الوعظ والإرشاد، وبعيداً كذلك من المليودراما، ويتركها تتسلل إلينا بخفة، عبر أداءات تمثيلية واعية، وقادرة على حمل الرسالة وتوصيلها، وعناصر جمالية تمتلك حواسنا كافة، لتدخلنا في رحلة تأمل للذات، وللكون من حولنا.