د. شاكر الحاج مخلف*
(الحلقة الثالثة)
نستعرض في هذه الحلقة وثيقة نادرة ومهمة، تنشر لأول مرة، قدمها وزير خارجية تركيا الأسبق الى العراق.
سأل نوري السعيد وزير خارجية تركيا عدنان مندريس المتواجد في بغداد للتفاوض حول العلاقات الثنائية:
- هل ما زلتم تحتفظون بالوثائق القديمة التي تعود إلى زمن الخلافة العثمانية ..؟
- رد مندريس: نعم، موجودة جميعها حتى أننا قمنا بنقل الوثائق إلى منطقة ديار بكر عند قيام الحرب العالمية الأولى.
- قال نوري السعيد من جديد: هناك وثيقة أنتم لا تعلمون عنها شيئا تتعلق بالكويت، عندما كانت البواخر البريطانية ترسو في الكويت وكان هؤلاء عبارة عن عشائر مرتبطة بالبحرين، فطلبوا من والي البصرة بأن يقدم لهم منطقة يسكنون فيها، وكان هؤلاء يشتغلون بصيد اللؤلؤ والقرصنة، فوافق الوالي وأعطاهم قطعة أرض هي الكويت الحالية.
- قال مندريس: جميع الوثائق التي تخص تلك الفترة محفوظة.
- رد نوري السعيد "بلهفة": طيب أنا أريد تلك الوثيقة..
"ثم أبلغ اللواء الركن عادل أحمد راغب بمرافقة وزير الخارجية التركية إلى أنقرة لجلب تلك الوثيقة. وأضاف: راغب أمر مندريس وكيل وزارته والموظفين بالبحث عن تلك الوثيقة، ثم وجههم بحصر البحث عن الوثيقة في الفترة بين عامي 1917 -1920 وتم العثور على الوثيقة التي شكلت موقفا محرجا للخارجية البريطانية. بموجب تلك الوثيقة طالب نوري السعيد بريطانيا بضرورة الموافقة على ضم الكويت للعراق من خلال تكوين الاتحاد العربي. كما دار حول الوثيقة الكثير من المكاتبات داخل وزارة الخارجية البريطانية ووزارة المستعمرات البريطانية، للبحث عن مخرج مناسب من ذلك المأزق الذي وضع الخارجية البريطانية أمام الموقف الضعيف... هناك أيضا موقف في غاية الأهمية اتخذه رئيس وزراء العراق نوري السعيد ألقى عليه الضوء السيد خليل كنة وزير المعارف ووزير المالية ورئيس المجلس النيابي العراقي للعام 1957.
وثيقة من أرشيف السيد خليل كنة
في اللقاء الذي تمّ مع الأستاذ خليل كنة الذي كان يشغل منصب وزير المعارف ووزير المالية ورئيس المجلس النيابي العراقي عام 1957، قال: "أتذكر حادثة مهمة جدا تكشف عن قوة شخصية رئيس الوزراء المرحوم نوري السعيد، وكذلك صدق نواياه بشأن الحفاظ على مصالح العراق الوطنية، عندما كان رئيسا لوزراء الاتحاد الهاشمي حضر لمقابلته سفير بريطانيا في ألمانيا، وأخبره بأن المعونة البريطانية للأردن سندفعها هذه السنة ولكن سنقطعها بعد ذلك، وعلى العراق أن يدفعها لأنه يمتلك النفط. نوري السعيد رفض الطلب وقدم استقالته، ثم فكر في الموضوع بعد عدم الموافقة على استقالته فوجد أن أحسن وسيلة لعدم قيام العراق بدفع هذا المبلغ إلى الأردن أن يُدخل الكويت في إطار الاتحاد الهاشمي، رفضت الكويت الفكرة كما رفضتها بريطانيا..! وعلى أثر ذلك قدم نوري السعيد مذكرة إلى الحكومة البريطانية تتضمن ثلاث نقاط من أبرزها:
- في حال رفضت بريطانيا والكويت قرار دخول الكويت إلى الاتحاد العربي يجب أن تعود المشيخة إلى حدودها السابقة القديمة داخل السور الأول. وفي حال عدم الأخذ بالاقتراح سيحتفظ العراق بحرية العمل. أخذ وزير الخارجية للإتحاد آنذاك توفيق السويدي الاقتراح إلى السفير البريطاني في عمان، الذي رفض استلام تلك المذكرة. وقال مستنكرا: "أنه لا يقبل استلام هكذا مذكرة..! فرد السيد السويدي عليه بحدة قائلا: أنت موظف وهذه المذكرة ليس لك شخصيا وإنما هي موجهة للحكومة البريطانية، وأنت بحكم واجبك عليك تسلمها وتبعثها إلى حكومتك كما عليك أن تبلغنا بالجواب..". بعد فترة وجيزة جاء الرد من الحكومة البريطانية عندما طلبت من رئيس الوزراء الحضور للمذاكرة معه والتحاور في أمر المذكرة وذلك في نهاية شهر تموز من العام 1958، بعد ذلك قابل نوري السعيد السفير البريطاني في عمان وكان برفقته السيد عبد الكريم الازري. وفي لحظة احتدم النقاش وكان الفريقان في حالة اصطدام. غضب نوري السعيد بشدة من كلام السفير البريطاني وقال له مهددا: لقد تعاونت كثيرا مع بريطانيا ومضت سنوات طويلة والحال لا يُسر. بريطانيا ترفض كل مقترحاتنا العربية، ومجددا ترفض المقترحات الخاصة بالكويت، فإذا استمرت بريطانيا على هذه السياسة، فأنا سأعتزل السياسة وسأسكن في قرية من قرى أوروبا، لأنني لا أرى أمل فيكم". يقول السفير العراقي عبد الكريم الازري: أنه لأول مرة أسمع كلاما من نوري السعيد بهذا الشكل العنيف، وهو قدم تلك المذكرة شديدة اللهجة، كما لوح بحرية العمل والتي تعني كما عرفنا فيما بعد استخدام القوة عند اللزوم. (توضيح من الكاتب) من الوثائق المهمة التي انجزتها الخارجية العراقية الوثيقة التي تحمل الرقم 977 والتي تسمى وثيقة (الاتحاد العربي الهاشمي) وقد أعدت في فترة حكم نوري السعيد وقد أطلعت عليها وهي تتضمن تحديد حدود تواجد شيخ الكويت ومن معه داخل السور، وكما وصف ذلك رئيس وزراء العراق لوفد التفاوض حول مدّ خط أنبوب النفط. أنشر في الفصول القادمة نص الوثيقة، وهي موجودة في ملفات وزارة الخارجية العراقية كاملة. كانت ثلاث وزارت في العراق مكلفة بجمع الوثائق المهمة عن عائدية الكويت بهدف تقديمها لبريطانيا خلال جلسات التفاوض التي تم تحديدها لاحقا بموعد سبق ثورة 14 تموز بأيام. الوزارات هي "الداخلية – الخارجية – الدفاع".
وثيقة أخرى مهمة تنشر للمرة الأولى من أرشيف فترة حكم – عارف
في 22- آذار من العام 1965 زار العراق وفد كويتي برئاسة شيخ الكويت آنذاك عبد الله السالم الصباح، وجرت مباحثات عديدة تناولت العلاقات الثنائية المتعددة الجوانب. وفي آخر ليلة من وجود الوفد أثاروا موضوع ترسيم الحدود. أنزعج الرئيس عبد السلام محمد عارف كثيرا من طروحات الوفد الكويتي ورد عليهم: "نحن دعاة وحدة عربية من الخليج إلى المحيط، لا توجد بيننا وبينكم أي حدود، كلكم لنا"، ثم قرأ لهم بيتا من الشعر يقول:
ليس بيني وبينكم من حدود *** هدم الله ما أدعوا من حدود
هذه الحادثة رواها السيد شامل السامرائي أثناء كتابتي حلقات برنامج "السراب واليقين لتلفزيون بغداد في العام 1991"، وكان آنذاك رئيس بعثة الشرف المرافقة للوفد الكويتي. وأضاف في روايته "أن الرئيس عبد السلام محمد عارف ألتفت إلى رئيس وزرائه طاهر يحيى وقال له: "ماذا تقول ...؟" ردّ طاهر يحيى ببيت من الشعر أيضا، حيث قال:
هوى ناقتي خلفي وقدامي *** الهوى وأني وإياها لمختلفان
ويضيف السيد شامل السامرائي أن "تلك الحادثة أدت إلى "زعل" عبد الله السالم الصباح، الذي اتخذ قراره بقطع الضيافة لدى الحكومة العراقية والانتقال من قصر بغداد المستضاف فيه إلى مقر السفارة الكويتية، لكنه بعد ذلك اضطر للعودة إلى قصر بغداد بعد أن أبلغت الحكومة العراقية الوفد الكويتي بأنه أي عبد الله السالم الصباح، إذا أراد مغادرة بغداد من مبنى السفارة الكويتية فسوف يغادر دون أي مراسم رسمية للتوديع، ذلك الموقف الحازم أضطره صاغرا للعودة إلى قصر الضيافة، مدعيا أنه كان يعقد اجتماعا مع أركان السفارة الكويتية ولم يقطع إقامته. وفي يوم 25 آذار 1965 غادر إلى الكويت، مودعا دون الحصول على أي موافقة أو رد أو مجرد اقتراح بشأن موضوع الحدود ...!
موقف تيار حزبي معارض للزعيم قاسم وموقف حسونه
أنشر هذه الوثيقة البالغة الأهمية والتي تتناول موقف تيار حزبي معارض لقاسم هو القوميون العراقيون، المجموعة كانت مناهضة لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، وقد صدر ضد أغلب قيادات ذلك التيار أحكام بالإعدام من خلال محكمة المهداوي (محكمة الشعب) وقد تمكن البعض منهم مغادرة العراق واللجوء إلى مصر باعتبارهم من المقربين إلى نظام عبد الناصر، وعندما خطب عبد الكريم قاسم، وقال أن "الكويت جزء لا يتجزأ من العراق"، وجدوا أن موقف عبد الناصر بالضد من ذلك القرار الوطني، وقفوا إلى جانب عبد الكريم قاسم، لم يتوقفوا عند معارضة "ناصر" بل كتبوا مذكرة شديدة اللهجة، وتقدموا بها إلى أمين جامعة الدول العربية عبد الخالق حسونة، وذلك في 3/ تموز / 1961 تحدثوا في تلك المذكرة عن وقائع تاريخية تتعلق بالكويت وكونها جزءا لا يتجزأ من العراق؛ إذ قدموا الأسباب التي استند عليها رئيس وزراء العراق. كما تحدثوا عن أسباب انفصال الكويت عن العراق وأنها أرض عراقية. وقد وقع تلك المذكرة كل من محمود الدرّة الذي قدم لنا نسخة من تلك المذكرة في العام 1991، وكذلك سلمان الصفواني وفائق السامرائي وكان أيضا قد ثبت في المذكرة اسم أحمد عبد الكريم الجزائري، لكنه لم يوقع على المذكرة بسبب تواجده خارج مصر في فترة تقديم المذكرة. تقول المذكرة: "نحن القوميون العرب الذين نذرنا حياتنا من أجل حرية العراق وعروبته وناهضنا حكم عبد الكريم قاسم نقف في هذه الساعات الحاسمة من تاريخ أمتنا إلى جانب شعبنا الذي أعرب بالإجماع عن مطالبته باسترجاع الكويت إلى الوطن الأم". ومن المواضيع الهامة التي ثبتتها المذكرة التأكيد على أن معاهدة الاستقلال التي طرحتها بريطانيا في 19 /6 /1961 على أساس أن تكون بديلا لمعاهدة الحماية تعتبر باطلة. لنقرأ ماذا كتبوا: "أن معاهدة شيخ الكويت التي لا أمد لها والتي تضمنت كل معاني الحماية ستجعل في مقدور بريطانيا أن تسارع بدعوة من شيخ الكويت إلى احتلال الكويت في أي وقت كان وتهديد كل بلد عربي وخصوصا العراق بحجة أن هناك تهديدا على الكويت نفسها ، وستقوم بريطانيا بتحشيد قواتها العسكرية في أي وقت تشاء ولا يكلفها ذلك إلا إيعاز يصدر عن شيخ الكويت". وتطلق تلك المذكرة السؤال الدرامي السياسي الصعب وفق رؤيا متبصرة لما قد يحدث عندما تقول: "فما هو موقف الدول العربية اليوم ..؟ وما هو موقف جامعة الدول العربية بالذات ..؟ أن مجرد المطالبة بسحب القوات البريطانية من الكويت لا يزيل الخطر عن هذه المنطقة، بل يبعده مؤقتا، فالمنطقة بأسرها معرضة إلى عودة هذه القوات مادام كيان الكويت قائما (انتهى نص الوثيقة). موقف التيار القومي العراقي أحدث أكثر من تغيير مهم نرصد ذلك أولا لدى أمين جامعة الدول العربية عبد الخالق حسونة الذي صرح قائلا:...
يتبع..
أقرأ في الحلقة الرابعة: عن المحاولات الأولى لاستعادة أرض الكويت والمعارك التي دارت من أجل هذا الهدف بين قوات أعيان البصرة – ولاية المنتفق – وقوات شيخ الكويت المدعومة من بريطانيا ، وعن الدور الذي قامت به شركة - الهند الشرقية - وقرار - أمير المنتفك - بقيادة حملة لتأديب شيخ الكويت وأيضا دور – ابن الضويحي وابن رشيد وموقف – سعدون باشا – أمير المنتفك من تجاوزاتهما على أرض البصرة والنجف والتقرير الذي كتبه – الضابط البريطاني – لجمن – عن معركة – الخميسية ..!
* باحث في تاريخ العراق القديم والمعاصر