محمد عبد الجبار الشبوط
الجزء الثاني
((في هذا الكتاب، سنستعرض كيف يُقدّم القرآن الكريم تصورًا متكاملاً لهذا المركب الحضاري، من خلال تحليل مفصل للعناصر الخمسة المذكورة، مستنيرين بآياته الكريمة، ومستنطقين دلالاتها الحضارية. ولا بد ان أشير الى انه تمت كتابة هذا العمل بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي))
الكاتب
الآية الأساسية:
﴿وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾
(العصر: 1-2)
افتتح الله هذه السورة بالقَسَم بالزمن ذاته – "العصر" – مما يدل على مكانة الزمن العالية في التصور القرآني، فهو الإطار الذي تجري فيه كل أفعال الإنسان، وبواسطته يُقاس التقدم أو التراجع الحضاري.
1. "وَالْعَصْرِ":
القسم بالعصر (أي الزمن) يؤكد أن الزمن ليس مجرد تتابع ساعات وأيام، بل هو عنصر فعّال، ذو قيمة تكوينية في حياة الإنسان والمجتمعات.
2. "إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ":
تحذير من أن الأصل في الزمن هو أنه يستهلك من عمر الإنسان، ويقتطع من رصيده، ما لم يُحسن استثماره في ما ينفع. أي أن الزمن بطبيعته مَجال للخسارة إن لم يُملأ بالعمل الصالح والعلم.
3. "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" (في الآية الثالثة):
الاستثناء الوحيد من الخسارة هو في أربعة عناصر: الإيمان، والعمل الصالح، التواصي بالحق، التواصي بالصبر. وهذه جميعها أفعال تحتاج إلى تخطيط، وصبر، واستمرارية زمنية، ما يجعل من الزمن أصلًا في مشروع الحضارة.
البعد الحضاري في الآية:
-الزمن ليس محايدًا في القرآن، بل هو رأس مال الإنسان الحضاري.
- كل تأخير أو تهاون في استثماره يُعد خسرانًا حقيقيًّا.
- المجتمعات التي تدرك قيمة الزمن تبني، وتلك التي تهدره تَفْنى. لذلك كان الوعي بالزمن شرطًا للتقدم.
المحور الثاني: الزمن كأداة للتخطيط والعمل المستقبلي
الآية الأساسية:
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾
(الفرقان: 62)
تشير هذه الآية إلى أن تعاقب الليل والنهار ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل نظام دقيق خُلق لحكمة عليا، منها التذكير بالله، وتنظيم حياة الإنسان، وتمكينه من التخطيط والإنجاز. وفي هذا النظام يكمن جوهر الزمن الحضاري.
1. "جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً":
أي أن الليل والنهار يتعاقبان، يخلف أحدهما الآخر بشكل منتظم، وهو ما يُمكِّن الإنسان من ضبط ساعته البيولوجية والاجتماعية، ويوفر إطارًا زمنيًّا للعمل والراحة والتعبد والتخطيط.
2. "لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ":
أي لمن أراد أن يتأمل ويتدبر في مرور الوقت، فيأخذ منه عبرة، ويتذكر أن الحياة قصيرة، ما يدفعه إلى العمل المجدي. القاء الضوء على هذه الحقيقة موجه للذين يريدون فعلا استثمار زمنهم.
3. "أَوْ أَرَادَ شُكُورًا":
أي أن يتفاعل مع نعمة الزمن بالاعتراف بها والعمل بمقتضاها، فلا يضيع الوقت في اللهو والكسل، بل يشكر الله بملء الزمن بالعمل الصالح.
البعد الحضاري في الآية:
- تعاقب الليل والنهار يوفر أداة تنظيمية طبيعية، يمكن من خلالها بناء نظم التخطيط والإنتاج.
- الآية تدعو إلى الوعي الزمني: أن يُدرك الإنسان أثر كل لحظة تمر عليه، وأن الزمن أداة استراتيجية.
- المجتمعات المتقدمة تقيس كل شيء بالزمن: الإنتاج، الإنجاز، النفقات، المشاريع. وهذه ثقافة موجودة في النص القرآني.
- تعاقب الليل والنهار باوقات مختلفة في بقاع الارض يمكن الانسان من استثمار هذا التفاوت لصالح العمل الحضاري، العنصر الاخير في المركب الحضاري.
المحور الثالث: إدارة الزمن في المنهج القرآني
الآية الأساسية:
﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾
(الشرح: 7–8)
توجه هذه الآية النبي محمدًا ﷺ – ومن خلاله الأمة كلها – إلى قاعدة مهمة في إدارة الوقت، تقوم على التحول المستمر من عمل إلى آخر دون فراغٍ ضائع. وهي دعوة لإدارة الوقت على أساس من الجد والتواصل بين المهمات.
1. "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ":
أي إذا أنهيت عبادة أو مهمة، فلا تجعل وقتك يضيع، بل بادر إلى مهمة أخرى. والنصب: التعب في الطاعة أو العمل، أي لا تجعل لنفسك فراغًا يُهدر.
2. "وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ":
أي اجعل وجهتك في كل ذلك نحو الله، فالنية هي ما يضفي على العمل قيمته الحقيقية، ويمنعه من التحول إلى عبء أو عبث.
3. إدارة الوقت في ضوء السنة النبوية:
- قال ﷺ: "نِعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغُ". (رواه عبد الله بن عباس، البخاري، صحيح)
- والنبي ﷺ كان يقسم وقته بين العبادة، والتخطيط، والتعليم، والإدارة، مما يشكل نموذجًا تطبيقيًّا راقيًا لإدارة الوقت.
البعد الحضاري في الآية:
- تشير الآية إلى أن الوقت لا يُملأ عشوائيًّا بل بخطة وهدف.
- المجتمعات التي تضبط مواعيدها، وتستثمر أوقات فراغها، تتقدم. أما التي تعيش في دوائر التراخي، فإنها تفقد ريادتها.
- إدارة الزمن ليست رفاهًا بل ضرورة حضارية، والإسلام يؤسس لذلك بأسس روحية وتنظيمية معًا.
المحور الرابع: الزمن في التاريخ القرآني – عبرة الأمم وسنّة التبدل
الآية الأساسية:
﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
(آل عمران: 137)
يعرض القرآن الكريم مسارات التاريخ الإنساني بوصفها ليست مجرد أحداث، بل دروس زمنية تتكرر ضمن "سنن" تحكم المجتمعات. فالزمن في القرآن ليس خطًّا ساكنًا بل حركة تُحدث التغير، ولهذا يجب التأمل في مصائر الأمم السابقة.
1. "خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ":
أي مضت في الأمم الماضية قواعد تاريخية يمكن ملاحظتها: كقيام الدول وزوالها، وارتقاء الحضارات وانهيارها. والسُّنن هي قوانين الله في المجتمعات، لا تحابي أحدًا.
2. "فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ":
دعوة للاستكشاف التاريخي الميداني، لرؤية آثار الحضارات ومواقعها. فالقرآن يدمج بين البعد الفكري والعملي في فهم الزمن التاريخي.
3. "فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ":
أي لا تقف عند الإعجاب بالمباني والآثار، بل انظر إلى المصير الذي آلوا إليه نتيجة سلوكهم، واكتسب الوعي بالمصير.
4. القرآن والتاريخ: - يعرض قصص عاد، وثمود، وفرعون، وقوم نوح، وغيرهم، لا كحكايات بل كدروس حضارية.
- يؤسس لفهم الزمن كدورة حضارية: قيام، نمو، استكبار، انحلال، ثم زوال.
البعد الحضاري في الآية:
- القرآن يُعلِّم أن من لا يقرأ التاريخ يكرر أخطاءه.
- فَهمُ الزمن في بعده التاريخي يجعل الإنسان أكثر وعيًا بحاضر أمته، وأكثر قدرة على استشراف مستقبلها.
- الأمم التي تدفن ذاكرتها التاريخية تُعيد إنتاج الفشل، بينما الناجحة تتعلم من زمنها وماضي غيرها.
الفصل الرابع
العلم – أداة التمكين والتميّز
يُعدّ العلم في القرآن الكريم أحد الركائز الأساسية للمركب الحضاري، إذ يشكل الأداة التي تُمكّن الإنسان من فهم سنن الكون، وتحقيق الاستخلاف، وبناء الحضارة على أسس من المعرفة والتدبر.
المحور الأول: العلم كأصل في بناء الإنسان والحضارة
الآية الأساسية:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾
(العلق: 1–5)
تُعدّ هذه الآيات أول ما نزل من الوحي، مما يدل على أن العلم هو أول لبنة في بناء الإنسان والمجتمع.
1. "اقْرَأْ": أمر بالقراءة، وهو مفتاح العلم والمعرفة.
2. "بِاسْمِ رَبِّكَ": توجيه بأن يكون طلب العلم مرتبطًا بالله، أي أن يكون العلم نافعًا ومهتديًا بالقيم الإلهية.
3. "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ": إشارة إلى أدوات العلم، فالقلم وسيلة لتدوين المعرفة ونقلها عبر الأجيال. ويمكن ان تتطور ادوات الكتابة الاخرى مثل الكومبيوتر.
4. "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ": تأكيد على أن الإنسان يتعلم باستمرار، وأن العلم هو ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات.
البعد الحضاري في الآية:
- العلم هو البداية التي انطلقت منها الرسالة الإسلامية، مما يدل على مركزية العلم في بناء الحضارة.
- الربط بين العلم والإيمان يؤكد أن العلم في الإسلام ليس مجرد معلومات، بل هو وسيلة لفهم الكون والتقرب إلى الله.
- التأكيد على أدوات العلم (القلم) يدل على أهمية التوثيق والكتابة في نقل المعرفة وتطويرها.
المحور الثاني: مكانة العلماء في القرآن الكريم
الآية الأساسية:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
(فاطر: 28)
تُبين هذه الآية المكانة الرفيعة التي خصّ بها القرآن العلماء، ليس فقط من جهة المعرفة بل من جهة أثرها الروحي والسلوكي، إذ إن الخشية الحقيقية من الله لا تصدر إلا عن قلبٍ يعرف عظمة الخالق من خلال العلم بخلقه.
1. "إِنَّمَا":
أداة حصر، تفيد أن الذين يخشون الله بحق هم العلماء، أي أن المعرفة الحقيقية تثمر خشية، والخشية بدورها تضبط سلوك الإنسان تجاه نفسه والناس والكون.
2. "يَخْشَى اللَّهَ":
الخشية هنا ليست خوفًا فحسب، بل هي شعور عميق بالمسؤولية أمام الله، تنبع من إدراك علمي لعظمته وتمام حكمته، وهو ما يجعل العالم أكثر تقوى.
3. "مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ":
أي أن العلم يُكرّم صاحبه حتى يصبح في مصاف العابدين، بل ويكون أرفع مرتبة من العابد الذي لا يعلم.
4. العلماء في المنظور القرآني:
- هم ورثة الأنبياء، لأنهم يحملون العلم الذي به تُبنى الحضارات.
- دورهم يتجاوز التخصص الضيق إلى القيادة الفكرية والروحية للمجتمع.
- العلم مسؤولية، وليس مجرد رفاهية عقلية أو وسيلة للكسب المادي.
البعد الحضاري في الآية:
- يربط القرآن بين العلم والإيمان، ويجعل العالم أكثر أهل الأرض أهلية للإصلاح.
- المجتمعات التي تكرّم العلماء، وتمنحهم الدور الحضاري اللائق، تنهض وتزدهر.
- آية "إنما يخشى الله من عباده العلماء" تعيد تعريف مكانة العلماء، لا بوصفهم فقط خبراء، بل هم قادة أخلاقيون وروحيون.
المحور الثالث: العلم كطريق لفهم الكون وتسخيره
الآية الأساسية:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾
(فصلت: 53)
تُقدّم هذه الآية رؤية قرآنية متكاملة للعلاقة بين الإنسان والعالم من حوله، وتؤكد أن دراسة الكون (الآفاق) والإنسان (الأنفس) هما طريقان رئيسيان للعلم الذي يقود إلى الإيمان بالله، ويشكّل قاعدة لبناء الحضارة على أساس من الفهم والتمكين. ومنها نفهم الطبيعة التراكمية والتصاعدية لخط العلم في التاريخ.
1. "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا":
وعد إلهي مستمر بأن تتجلى الآيات للناس، أي الدلائل الكونية والقانونية التي تُظهر حقائق الخلق.
2. "فِي الْآفَاقِ":
إشارة إلى الآفاق الكونية: السماء، النجوم، الأرض، قوانين الطبيعة. وهذه كلها مجالات للعلم الطبيعي والتقني، وهي ميدان للتأمل والاكتشاف.
3. "وَفِي أَنفُسِهِمْ":
أي في الإنسان نفسه: في جسمه، وعقله، ونفسه، وجيناته، وهو ميدان واسع للعلوم الإنسانية والطبية.
4. "حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ":
الغاية من العلم ليست فقط المعرفة، بل الوصول إلى الحقيقة، أي اكتشاف انسجام سنن الكون مع الوحي، مما يقود إلى الإيمان بالله وتأكيد صدق الرسالة.
البعد الحضاري في الآية:
- تجعل هذه الآية من العلم وسيلة لفهم سنن الكون وتسخيرها، لا مجرد تجميع معلومات.
- تحفّز على المنهج الاستقرائي والتجريبي في دراسة الطبيعة والإنسان.
- تدعو إلى اندماج العلم والإيمان في مشروع حضاري متكامل: فهم الطبيعة = تمكين حضاري + وعي إيماني.