إبراهيم العريس
لا شك في أن رحيل الكاتب الروسي إدوارد ليمونوف عن عالمنا قبل خمس سنوات أراح كثراً، وجعل حتى سيد الكرملين نفسه يتنفس الصعداء. ولم يكن ذلك بالطبع لمجرد أن هذا الكاتب أعلن قبل حين أنه يرشح نفسه بصورة جدية لرئاسة الدولة الروسية، فمثل هذا الأمر ليس من شأنه أن يزعج قيصر الكرملين، بل من شأنه أن يضحكه ويسليه. فالجمهور العريض الذي ينتخب الرئيس الروسي ولاية بعد الأخرى يفوق في عدده مئات الأضعاف أولئك الذين قد يفكرون، ولو على سبيل المزاح، إعطاء أصواتهم لصاحب كتاب "سجوني"، وعدد لا بأس به من نصوص مشاكسة أخرى، بل لأن ليمونوف مزعج في أي شيء يفعله ويحول السياسة إلى تهريج كما يحول الأدب إلى شكوى دائمة.
كان ليمونوف حالة قصوى في التمرد، وهو كان كذلك داخل السجن كما كانه خارجه. وكان كذلك بالنسبة إلى بلاد الستالينية السابقة كما كانه بالنسبة إلى بلاد العالم الرأسمالي الذي التجأ إليه ذات حقبة من حياته منشقاً، لكنه معلناً نفسه اشتراكياً وفاشياً في الوقت نفسه، ثم دون في كتاب سابق له واحدة من أقسى المرافعات في التاريخ ضد البيرقراطية الفرنسية، لمجرد أنه "اضطر" كما يروي لنا في كتابه المعنون "خطاب رأس يابس يعتمر قبعة بروليتارية" إلى أن يدفع رشوة في مقابل التعجيل بحصوله على بطاقة إقامة في فرنسا!
والحال أنه لئن سيبدو الكتاب المذكور مسلياً لقارئه، لن يبدو كتاب "سجوني" كذلك. فهو كتاب طافح بالمرارة واللؤم والشكوى الحادة، بالنظر إلى أن التجربة التي يرويها فيه، وهي على أية حال تجربة ذاتية كحال معظم ما كتبه ليمونوف، خلال العقود الأخيرة من حياته، تجربة أكثر مرارة وإيلاماً، بحيث إننا لو صدقنا كل ما يقوله الكاتب فيه سنجد أنفسنا أمام كتاب يضاهي "ذكريات من بيت الموتى" لدوستويفكسي ويجعل من كتابات جان جينيه حول الهامشيين والسجون لعبة أطفال. وحسبنا أن نستعير من "سجوني" ذلك الاستنتاج، الذي يقول فيه ليمونوف إن "دولة يتحكم بها رجال المافيا وعصابات اللصوص الآخرين، لا يحق لها أن تحاكم أحداً بتهمة الانتماء إلى اللصوص والعصابات المافيوزية". ولعل في هذه العبارة وحدها ما يريح رئيس دولة تنتمي إلى المافيا، إن قيل له يوماً إن واحداً من رعاياه على شاكلة ليمونوف مات من دون أن تكون للسلطات يد في موته. والحقيقة أن ليمونوف قضى نحبه بصورة طبيعية كما كان كثر من عارفيه قد توقعوا له، وهو بدا في رحيله عادياً كما لم يكن في أي يوم من حياته. وكما لا تقول لنا أي من كتبه، وبخاصة كتاب "سجوني" الذي إن لم يكن أقوى كتبه وأشهرها فإنه سيعتبر بمثابة وصيته الأكثر طموحاً، وسجل معركته الأشد قسوة وحكايته الأفدح مرارة، وذلك بالتحديد لأن ليمونوف عبر فيه تحديداً عن أفكار سياسية تبرر بالنسبة إلى منطقه الخاص، مشاركته ذات يوم عند نهايات القرن الـ20، في تأسيس ذلك الحزب السياسي الذي حمل اسم "الحزب القومي البولشفي" تيمناً بستالين، وهتلر في بوتقة واحدة. وكان حزباً التقط الغرب المدهش يومها من بياناته التأسيسية فكرة من ليمونوف فحواها أن الاتحاد السوفياتي قد يكون رحمة بالمقارنة مع روسيا المعاصرة، ففي الإمبراطورية الستالينية الشاسعة كان الحكم على متمرد بتمضية خمس سنوات في الغولاغ يعتبر جريمة دولة موصوفة، بينما يعتبر نفي هذا المرء إلى سيبيريا اليوم حيث يمضي 20 عاماً، أمراً عادياً. وهذا مايقوله إدوارد ليمونوف (1943 - 2020) على طول صفحات "سجوني"، الكتاب الذي يروي في صفحاته البالغة 300 صفحة تقريباً حكاية عامين أمضاهما في سجون بلاده، متنقلاً بين سجن روسي وآخر. ونعرف أن ليمونوف دبج هذا الكتاب بعد أسابيع من مغادرته تلك الحقبة المريرة من حياته التي أمضاها في صحبة رفقة من أحط أنواع اللصوص والقتلة الذين يمكن للمرء أن يلتقيهم ويتعرف بهم ويصغي إليهم يروون حكايات حياتهم، فبقدر ما أن "سجوني" نص ذاتي حول الحقبة التي أمضاها الكاتب في السجون الروسية، هو كذلك نص عمن التقاهم في السجن وظروف تلك اللقاءات بحيث يتحول النص بين فصل وآخر إلى نوع من دراسة سوسيولوجية، تقدم للقارئ صورة شديدة القسوة عن روسيا الجديدة في ظل الزمن الليبرالي وعهود "الحرية"، مما يعزز من قوة المرافعة التي يريد الكاتب إيصالها دفاعاً عن "العصر الذهبي لأخلاقيات سياسية معينة"، مما يحول الكتاب في مجمله إلى بيان سياسي كتب بلغة بديعة بالتأكيد. وكتب ليصور لنا تنقلات ليمونوف القسرية من سجن إلى آخر تبعاً لمزاجية نظام قضائي يتفنن الكاتب في تصوير عشوائيته، ومكتوب بقلم مبدع منشق لا يشبه أي منشق آخر، ليس فقط انطلاقاً من جذريته المفرطة، ولكن كذلك وخصوصاً انطلاقاً من كونه من القلة التي تشعر اليوم بحنين ما إلى ما كانت انشقت عنه أصلاً: النظام السوفياتي. ومن هنا تغيب عن الكتاب تلك "الأمثلة" المعتادة للعالم الغربي، ومنها على سبيل المثال تلك الصفحات المدهشة حيث يحلل ليمونوف المنظومة القضائية الروسية الجديدة، انطلاقاً من زعمها السير على خطى المنظومة القضائية القائمة في الغرب التي عرفها بنفسه، ولا يزال يفضل عليها نظيرتها السوفياتية باعتبارها "أكثر عدلاً". ولذلك يمكننا أن نلاحظ في البعد السوسيولوجي للكتاب، تعاطف كاتبه، مع المهمشين الذين يتحدث عنهم كرفاق درب مهما كان شأن التهم التي سجنوا بسببها.
صحيح أن كونهم من الحثالة أمر لا يغيب مطلقاً عن نص ليمونوف، فهو يعرف تماماً أن كثرتهم الغالبة من القتلة والمغتصبين والمنحرفين جنسياً، لكنه يعرف أيضاً كيف يتعامل معهم ككائنات بشرية حدث لها أن وقعت ضحية لقسوة المجتمع "المنفتح" وإغراءاته التي يصعب مقاومتها. وبالتالي فإن وجودها في كتابه مع حوارات طويلة ومتشعبة يجريها مع عدد منهم، أمر يتيح لليمونوف فرصة طيبة تحوله إلى باحث سوسيولوجي يتمكن بفضل ذلك كله من تقديم صورة شديدة الصدق والصراحة لما آلت إليه أحوال ما كان يسمى ببلاد السوفيات في ظل إمبراطورية المافيا الجديدة. وبالتالي فإن ما يطالعنا هنا إنما هو نص يتمكن، وربما من دون أن يقصد ذلك، من أن يكون تجديداً مؤسياً وممتعاً في الوقت نفسه لما كان دوستويفسكي فعله في "بيت الأموات" قبل ما يقرب من قرنين، وجدده أنطون تشيخوف قبل قرن ونصف القرن تقريباً في كتابه الكبير عن جزيرة ساخالين.