ينشغل كثير من الكُتّاب والمعلّقين الشيعة، في هذه اللحظة، بتسجيل مفاعيل “النصر الإيراني” ومقارنة الخسائر التي لحقت بالعدو الصهيوني، وهو أمر مفهوم في سياق المعركة الإعلامية والنفسية، خصوصًا بعد نجاح إيران في تثبيت معادلة ردع جديدة غير مسبوقة في الصراع مع إسرائيل.
غير أن المرحلة القادمة، من منظور حضاري واستراتيجي، تستدعي نقلة نوعية في التفكير السياسي الإيراني، تتجاوز منطق تسجيل النقاط والاحتفاء اللحظي، إلى بلورة رؤية مستقبلية متزنة، تأخذ في الاعتبار التعقيد المتزايد في بنية النظام الدولي، وتشابك مصالح اللاعبين الكبار، وتحولات الداخل الإيراني نفسه. في هذا السياق، تطرح هذه المقالة خمسة محاور كبرى لاستراتيجية ما بعد النصر، يمكن لإيران – بوصفها قوة إقليمية طموحة وذات هوية حضارية – أن تعتمدها لبناء حضورها المستقبلي.
1. من الردع العسكري إلى المبادرة السياسية
لقد أثبتت إيران قدرتها على توجيه ضربات دقيقة ومحسوبة، في واحدة من أكثر المواجهات شفافية في التاريخ الحديث. غير أن الحفاظ على حالة الردع لا يكفي؛ بل لا بد من تحويله إلى رأسمال سياسي قابل للاستثمار في المسارات التفاوضية والدبلوماسية. على إيران أن تنتقل من منطق “الردّ” إلى منطق المبادرة: مبادرة تُخرج المنطقة من دوائر التصعيد المتكررة، وتطرح مشروعًا متكاملاً للأمن الإقليمي الجماعي، لا يستثني أحدًا، ولا يقوم على هيمنة طرف على آخر.
2. إعادة تعريف العلاقة مع حلفاء المقاومة
يتعيّن على إيران أن تعيد هيكلة علاقة المركز بالأطراف على قاعدة الشراكة المتكافئة، لا التبعية.
وهذا يتطلب: احترام استقلالية القرار المحلي.
دعم القدرات التنموية إلى جانب القدرات العسكرية.
فتح قنوات لحوار ثقافي وتربوي يربط المقاومة بالمجتمع، لا بالسلاح فقط.
3. دمج القوة الناعمة في الاستراتيجية الإقليمية
النصر لا يُصان بالقوة الصلبة وحدها. وعلى إيران أن تستثمر في قوتها الناعمة: التاريخ، والثقافة، والفكر، والخطاب الديني، والتعليم، والطب، والإعلام.
إن تقديم إيران بوصفها دولة حضارية تسعى للسلام العادل والتنمية المشتركة، سيكون أكثر فعالية من تقديمها كقوة عسكرية صلبة فقط.
القرآن الكريم يقول: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ… فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34)
4. مراجعة الداخل: الاقتصاد، والحرّيات، والحوكمة
لكي تكون الدولة قوية في الخارج، يجب أن تكون متماسكة من الداخل.
بعد كل إنجاز خارجي، تزداد مسؤولية النظام السياسي تجاه شعبه. فالجوع لا يُطفأ بالنصر، ولا البطالة تُعالج بالصواريخ. من هنا فإن: الإصلاح الاقتصادي الشامل. محاربة الفساد. إشراك المواطن في القرار. فتح المجال للحريات المنضبطة. كلها شروط أساسية لتحويل النصر العسكري إلى نصر حضاري شامل.
5. بلورة رؤية حضارية إسلامية عالمية
إيران اليوم في موقع يؤهلها لقيادة فكرية لا تقف عند حدود الصراع مع إسرائيل، بل تمتد إلى بناء بديل حضاري عالمي يعيد تعريف النظام الدولي من منظور التوحيد والعدالة والكرامة.
ليس المطلوب نسخة شيعية مغلقة، بل مشروع إنساني عالمي، ينفتح على العالم الإسلامي، وعلى قوى العدالة في العالم، من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا، ومن حركات مناهضة العولمة الرأسمالية إلى منظمات البيئة والحقوق.
قال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران: 110) فأية أمة تريد أن تكون “خيرة” لا بد أن تشتغل على الإنسان، لا فقط على السلاح.
خاتمة: من النصر إلى المشروع: إن الإنجاز العسكري الإيراني الأخير محطة هامة، لكن الخطأ الاستراتيجي يكمن في تحويلها إلى غاية نهائية بدل أن تكون منطلقًا لرؤية أوسع. إيران بحاجة إلى مشروع يعبر بها من الردع العسكري إلى النهضة الحضارية، ومن محور المقاومة إلى منظومة العدالة العالمية.
ولا شيء يمنعها من ذلك… سوى الانشغال بالماضي عن المستقبل.