أحمد المهنا
على ما أعرف فان بلدة المحمودية نشأت في القرن التاسع عشر حول خان بني لزوار العتبات المقدسة،في طريقهم الى النجف وكربلاء. وسمي ذلك المبنى «خان السبيل».
ولابد ان ذلك الخان شهد مجدا حتى يحتل تلك المساحة الواسعة في قلب المدينة، ويضم عشرات الايوانات الموزعة على جوانب ساحته الواسعة، فضلا عن السور العالي والبوابة الكبيرة في الواجهة.
ولكني منذ رأيته اول مرة في طفولتي حتى غادرت البلد في شبابي، وهو شباب دائم ان شاء الله،كان مهجورا مغلقا، يبعث مشاعر الأمان في وقت عابر من السنة، والخوف في بقية السنة.
في اعلى واجهته فوق البوابة كانت اللقالق تبني اعشاشها وتستقر فيها مدة ثم تهاجر. وكان مشهدها مبعثا للراحة والدهشة والغرابة. واذكر انها حين كانت تختفي تخلف فراغا تفتقده العين. وقد صنع هذا الطائر لنفسه هالة في نفوس الناس، فهم يستبشرون به، ولا يتحرشون به ولا بأعشاشه، كأنه «سيد»من ايام زمان.
ويبدو انه تمتع بهذه المنزلة في كل مكان من البلاد. وذلك قد يفسر اختياره العراق للتكاثر.
طائر ثان اختار خان السبيل للإقامة، ولكن لفترات اطول وربما على مدى السنة.لكنه خلافا للأول لم يكن انيسا ولا مقدرا بل موحش والى حد ما مخيف. ذلك هو الخفاش. ما ان تميل الشمس الى الغروب حتى ينطلق من خان السبيل في اسراب تطير حوله. وكنا نتجنبها ونخشاها، وكان يقال انها يمكن ان تلطش بالعيون ولربما سببت العمى. كلام خرافة ولكن ليس من دون اساس. فقد عرفت فيما بعد انها قد تسبب مرض الكلب( السعار).
وكان شيء من الفزع ينتابني كلما مررت وقت الغروب في الدربونة الطويلة بين احد جوانب سور الخان وبين بستان كاظم جاووش. فالخفافيش تكون منطلقة، صاعدة نازلة اسرابا. والى ان اقطع الدربونة وانتهي منها تكون حياة جديدة قد كتبت لي.
بعض المشاهد تأخذ اقامة دائمة في النفوس. وذات يوم في نيقوسيا هاجت علي المحمودية فكتبت قصة كان اسمها الخفاش وكان خان السبيل مسرح أحداثها. كانت مبعث القصة قطعة خالصة من الشوق، ولكنها خرجت برداء الخوف.
وكانت هذه النتيجة غريبة.فلا الشوق يشكل مقدمة لمثل هذه النتيجة. ولا نيقوسيا، عاصمة جزيرة الشمس، يمكن ان تقود اليها. فتلك جزيرة مرح وانفتاح وأمان. وبدلا من ان يدعوني ذلك الى تذكر سماحة اللقلق نسيته ومضيت مباشرة الى الخفاش.
وبعد عقدين من كتابة تلك القصة، ذات الذكرى الأثيرة في نفسي، انتهى منفاي فجأة، وجئت ازور خان السبيل كمن يعاود حبا مقطوعا في الجغرافيا موصولا اتصالا حارا في النفس. انه، بعد او قبل اي شيء، الأثر الوحيد في مركز المدينة. والآثار ليست اي كلام. هي ابداعات الروح البشري وقد اتخذت شكل المعمار. هي القداسة مصاغة بآلاف الناس والاعمال والنظرات والأقدام.
السور من الواجهة ليس هو نفسه. لقد هدم وبني من جديد! والخان لم يعد يستضيف اللقالق نهائيا منذ سنوات طويلة. الخفافيش اختفت بدورها. الخان تحول سوق هرج بائس. دون رسائل خوف او امان. خان الفقدان. بلد الفقدان.