بغداد – العالم
في خطوة وُصفت بأنها "متأخرة ولكن ضرورية"، أعلن مجلس محافظة بغداد منع إقامة المشاريع الاستثمارية على الأراضي الزراعية الواقعة في أطراف العاصمة، بعد أن طالتها خلال السنوات الماضية عمليات تجريف وتحويل ممنهجة، نفذتها جهات متنفذة مدعومة من أحزاب وفصائل سياسية. ويأتي القرار في ظل تصاعد التحذيرات من فقدان الغطاء الأخضر حول العاصمة، وما يرافقه من تداعيات بيئية ومناخية واقتصادية خطيرة.
وبحسب ما أكده رئيس اللجنة القانونية في مجلس المحافظة محمد الشعلان، فإن المجلس صوت على إلغاء جميع الإجازات الاستثمارية الممنوحة بشكل مخالف للقانون، استنادًا إلى أحكام الدستور والفقرة الرابعة من المادة (7) من قانون المحافظات غير المرتبطة بإقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل. كما نص القرار على إلزام مديرية زراعة بغداد والبلديات والوحدات الإدارية بعدم منح أي إجازة استثمار أو تخصيص أراضٍ زراعية من دون موافقة مسبقة من مجلس المحافظة.
الشعلان أوضح أن الهدف من القرار هو وقف النزيف المستمر في المساحات الزراعية التي يجري تحويلها إلى مناطق سكنية أو مشاريع تجارية، مشيرًا إلى أن مناطق جنوب بغداد وحدها شهدت تجريف نحو 28 ألف دونم، حُولت إلى مشاريع استثمارية لا تراعي المصلحة العامة، وتسببت بحرمان آلاف العوائل من مصادر رزقها الزراعي.
وأكد الشعلان أن مجلس المحافظة "لا يعارض مبدأ الاستثمار"، لكنه يشدد على ضرورة أن يتم في أراضٍ صحراوية غير منتجة، بعيدًا عن الأراضي الزراعية الخصبة التي تشكل رئة العاصمة ومصدرًا غذائيًا مهمًا. وأضاف أن ما جرى في السنوات الماضية لم يكن استثمارًا حقيقيًا بقدر ما كان استيلاءً منظّمًا على الأراضي العامة تحت غطاء المشاريع الاستثمارية.
ويشير مختصون في المجال الزراعي إلى أن العاصمة بغداد فقدت خلال العقدين الأخيرين نسبة كبيرة من أراضيها الزراعية والبساتين، بفعل غياب الرقابة وتواطؤ بعض الجهات التنفيذية، مما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي المحلي، وزيادة الاعتماد على الاستيراد الخارجي، وتفاقم الأزمات البيئية داخل المدينة.
وشهد العراق عمومًا، وبغداد خصوصًا، منذ عام 2003، عمليات تجريف واسعة النطاق للأراضي الزراعية، نفذتها جهات محمية من قوى سياسية وحزبية وفصائل مسلحة تمتلك نفوذًا داخل مؤسسات الدولة. وبحسب تقديرات وزارة الزراعة، تقلصت مساحة الأراضي الزراعية المستغلة في البلاد إلى 18 مليون دونم فقط من أصل 32 مليون دونم صالحة للزراعة.
وفي العاصمة، تحولت آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية والبساتين في أطراف المدينة إلى مشاريع سكنية واستثمارية، خصوصًا في مناطق الراشدية واليوسفية والمدائن وأبو غريب، مما أدى إلى اختفاء المساحات الخضراء التي كانت تساهم في خفض درجات الحرارة وتقليل العواصف الترابية وتصفية الهواء من الملوثات.
وكان النائب كاظم الشمري قد حذر في وقت سابق من أن ما يجري في مناطق حزام بغداد هو بمثابة "تغيير ديموغرافي صامت"، عبر الاستيلاء على الأراضي الزراعية بوسائل الترهيب أو التهديد بتهم كيدية، مشيرًا إلى أن بعض الجهات المسلحة التي تدّعي الانتماء للمؤسسات الأمنية تمارس ضغطًا على المزارعين لإجبارهم على التخلي عن أراضيهم.
ورغم إعلان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في تموز الماضي توجيهه الجهات المختصة برفع نتائج التحقيقات الخاصة بالتجاوزات على الأراضي الزراعية في أطراف بغداد، واتخاذ الإجراءات القانونية بحق المتورطين، إلا أن سياسات الحكومة في هذا الملف بدت متناقضة.
ففي الوقت الذي تتحدث فيه الجهات الرسمية عن حماية الأراضي الزراعية، مضت الحكومة في قرارات تحويل جنس واستعمال الأراضي الزراعية إلى سكنية ضمن شروط وضوابط محددة، استنادًا إلى قرار مجلس الوزراء رقم 320 لسنة 2022، الذي أتاح لأمانة بغداد فرز 7 مناطق زراعية وإرسال بياناتها إلى دائرة التسجيل العقاري.
وفي خطوة لاحقة، أعلنت وزارة الزراعة السماح بتحويل جنس الأراضي الزراعية المملوكة للدولة إلى سكنية في تسع مناطق من العاصمة، من بينها ولداية ومنيسيف والشماعية وكرع والصدر الثانية والنعيرية والكيارة، بينما كانت مناطق البياع والصدر الأولى والأعظمية والشعب قيد إجراء تعديل التصميم الأساسي. كما صدر في مطلع العام الجاري قرار رقم 20 لسنة 2025، الذي شمل تمليك المتجاوزين على الأراضي البلدية الواقعة داخل حدود البلديات، وتثمينها وفق قانون بيع وإيجار أموال الدولة، وهو ما اعتبره خبراء خطوة "تشرعن التجاوز" وتفتح الباب أمام المزيد من فقدان الأراضي الزراعية.
ويرى مختصون أن استمرار هذه الممارسات سيقود إلى كارثة بيئية ومناخية في بغداد، إذ تسبب اختفاء البساتين وتحويل الأراضي الزراعية إلى كتل إسمنتية في ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة العواصف الترابية، وارتفاع معدلات التلوث الهوائي، فضلًا عن تراجع التنوع الإحيائي واختفاء العديد من أنواع الأشجار والنباتات.
ويحذر خبراء من أن إزالة الغطاء النباتي في أطراف العاصمة يهدد الأمن الغذائي والبيئي معًا، داعين إلى تبني سياسة واضحة لحماية ما تبقى من الأراضي الزراعية، وتفعيل القوانين الخاصة بالاستثمار الزراعي، وتشديد العقوبات على المتجاوزين والمتواطئين من الجهات التنفيذية.
كما صدر في مطلع العام الجاري قرار رقم 20 لسنة 2025، الذي شمل تمليك المتجاوزين على الأراضي البلدية الواقعة داخل حدود البلديات، وتثمينها وفق قانون بيع وإيجار أموال الدولة، وهو ما اعتبره خبراء خطوة "تشرعن التجاوز" وتفتح الباب أمام المزيد من فقدان الأراضي الزراعية.
ويرى مختصون أن استمرار هذه الممارسات سيقود إلى كارثة بيئية ومناخية في بغداد، إذ تسبب اختفاء البساتين وتحويل الأراضي الزراعية إلى كتل إسمنتية في ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة العواصف الترابية، وارتفاع معدلات التلوث الهوائي، فضلًا عن تراجع التنوع الإحيائي واختفاء العديد من أنواع الأشجار والنباتات. ويحذر خبراء من أن إزالة الغطاء النباتي في أطراف العاصمة يهدد الأمن الغذائي والبيئي معًا، داعين إلى تبني سياسة واضحة لحماية ما تبقى من الأراضي الزراعية، وتفعيل القوانين الخاصة بالاستثمار الزراعي، وتشديد العقوبات على المتجاوزين والمتواطئين من الجهات التنفيذية.
ويمثل قرار مجلس محافظة بغداد الأخير محاولة متأخرة لتصحيح مسارٍ خاطئ استمر سنوات، تداخلت فيه المصالح السياسية والاقتصادية مع الفوضى الإدارية، على حساب المصلحة العامة. لكن نجاح هذا القرار في تحقيق أهدافه سيظل مرهونًا بقدرة الجهات التنفيذية على فرض القانون ومواجهة النفوذ السياسي والفصائلي، الذي جعل من الأراضي الزراعية في أطراف العاصمة غنيمةً تتقاسمها قوى متعددة، بعيدًا عن أي تخطيط أو رؤية تنموية مستدامة.