مها العدواني / قاضية متقاعدة
في السنوات الأخيرة برزت ظاهرة مزدوجة في المجتمع العراقي ، من جهة ما يزال الزواج المبكر موجودًا بنسب ملحوظة (خصوصًا لدى فتيات في بعض المحافظات)، ومن جهة أخرى يعكس واقع اقتصادي واجتماعي متغيّر تراجعًا أو تأجيلًا ملحوظًا لقرار الزواج بين فئات كبيرة من الشباب والشابات ، هذا التناقض يعكس اضطرابًا بين ضغوط تقليدية واقتصادية من جهة، وطموحات تعليمية ومهنية ورغبة في استقلالية من جهة أخرى .
وفي إحصائية سريعة يتضح ان الزواج المبكر لا يزال منتشرًا تبيّن بيانات وبرامج الأمم المتحدة أن نسبة النساء اللواتي تزوّجن قبل إتمام 18 سنة تقارب 28% في العراق (مع تفاوت بين المحافظات ، فبعض المحافظات الجنوبية والوسطى لها نسب أعلى) .
هذا يدلّ أن جانبًا من المجتمع ما يزال يلجأ إلى الزواج المبكّر ، علما ان بيانات تسجيل الزواج الرسمية متقلبة فقد سجّلت الجهات القضائية وحسب (السجلّات الرسمية) أرقامًا كبيرة من عقود الزواج سنويًا، لكن الأرقام الشهرية تتفاوت (مثال: مجموع عقود الزواج المُسجَّلة في النصف الأول من 2025 بلغ نحو 171,846 عقدًا . هذا الرقم وحده لا يعرِّف اتجاهًا نهائيًا (ارتفاعًا أو هبوطًا طويل الأمد) لكنه يظهر تحويلات دورية في سلوك الزواج. ومع وجودسياق اقتصادي واجتماعي ضاغط فان معدلات بطالة الشباب والضغوط الاقتصادية (تكلفة الزواج، صعوبة الحصول على سكن وظيفي مناسب، بطالة الخريجين) تجعل تكاليف شروع حياة مستقلة مرتفعة، وهذا عامل رئيسي يدفع الشباب لتأجيل أو التخلي عن قرار الزواج. مع العلم ان تقارير منظّمات العمل والاقتصاد توثّق هشاشة فرص التوظيف للشباب والنساء على حد سواء.
ويجب ان نعرف انه هنالك مصادر جيدة حول الزواج المبكر والإشكاليات القانونية والاجتماعية المحيطة به، ومصادر رسمية عن أعداد عقود الزواج الشهرية. لكنّ الدراسات الوطنية التي تقيس مباشرة نسبة «العزوف» عن الزواج (مثلاً: كم نسبة الشباب الذين قرّروا نهائيًا ألا يتزوجوا) محدودة أو نادرة — في مثل هذه الحالات نعتمد على مؤشرات وسطيه مثلى (معدلات التأجيل، أسباب اقتصادية، استطلاعات رأي محلية عندما توفّرها منظمات المجتمع المدني).
وهناك اسباب رئيسيه لتاخر الشباب والشابات عن الزواج من اهمها :
الضغط الاقتصادي وغلاء تكاليف الزواج والسكن
وهناك شهادات صحفية ومقالات ميدانية من مدن مختلفة تكرّر أن «الشباب لا يملكون المال لتكاليف الفرح والكسوة والمسكن» وأن تكلفة بدء حياة من شأنها أن تدفع البعض للتأجيل لسنوات أو لإلغاء الفكرة تمامًا. هذا يرتبط مباشرة بمعدلات بطالة الشباب وفرص العمل الهزيلة.
البطالة وعدم الاستقرار الوظيفي: خريجون بكالوريوس ما زالوا بلا عمل ثابت؛ كثير من الشباب يشترط أن يكون لديه دخل ثابت قبل التفكير بالزواج. تقارير ومسوحات ILO تؤكد وجود تهميش لسوق العمل أمام الشباب والنساء مما يزيد مخاطر التأجيل. ارتفاع سقف التطلعات التعليمية والمهنية (خاصة لدى الشابات) تزايد التحاق الفتيات بالجامعات وارتفاع توقعاتهن المهنية يجعل البعض يفضل تأخير الزواج لإكمال دراسته أو بناء مسار مهني مستقل؛ هذا نمط ملحوظ في الوقت الحاضر . وايضا تقارير التنمية والمرأة تشير إلى أن التعليم لا يضمن تلقائيًا دخول سوق عمل لائقًا، لكنّه يغيّر رغبات الشابات تجاه الاستقلال والزواج المبكر.
ولابد ان نضيف ان هنالك تقارير حقوقية توثّق حالات زواج غير مسجلة أو عقود رسمية غائبة، وعند التقصي عن آثارها على النساء مابين (فقدان حقوق ، عنف ، انعدام حماية اجتماعية) كل ذلك يجعل بعض الشابات تتريث أو ترفض خوض تجربة قد تكون محفوفة بالمخاطر . كما ان تغير القيم الاجتماعية وأدوار الجنسين تغيّر الأنماط الاجتماعية وقبول فكرة العزوبية أو تأجيل الزواج كخيار متاح ، خصوصًا في الفئات الشبابية المتعلمة التي صار لديها بدائل اجتماعية ومهارات رقمية ووظائف غير تقليدية ، هذا لا يعني اختفاء الرغبة بالزواج ، بل تحويل ترتيب الأولويات وظيفة استقرار ثم زواج ، أو حتى تأجيل مؤقت بلا موعد نهائي .
ومع كل هذا يمكن القول ان عزوف الشباب والشابات عن الزواج ليس ظاهرة موحدة على مستوى البلاد بل يختلف من محافظه الى اخرى ففي بغداد مثلا تكون المشكله مرتبطه بالسكن وصعوبة ايجاد عمل مستقر اما في البصرة فالموارد النفطية لم تترجم الى فرص عمل للشباب مع ضغط اضافي من غلاء المهور اما في نينوى فهناك ازدواجية بين الزواج المبكر للفتيات وعزوف الشباب بسبب الخراب والدمار .
واخيرا في المثنى فان الفقر المدقع يدفع الى التاجيل او الهجرة مع محاولات بعض الاسر تامين زواج قائم على دعم مالي من الخارج ، اذا تختلف الاسباب حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .