بغداد ـ العالم
رغم وضوح النصوص القانونية والنظام الداخلي لمجلس النواب بشأن حضور الجلسات والالتزام النيابي، إلا أن التطبيق الفعلي لهذه القواعد ما زال غائبًا بفعل التوافقات والمجاملات السياسية التي تهيمن على أداء المؤسسة التشريعية، في مشهد يعكس هشاشة الانضباط البرلماني وتراجع الدور التشريعي والرقابي للنواب.
تؤكد اللجنة القانونية النيابية أن الاتفاقات السياسية بين الكتل تمنع تفعيل الإجراءات الانضباطية ضد النواب المتغيبين، رغم أن النظام الداخلي ينص صراحة على قطع مليون ونصف المليون دينار من راتب النائب المتغيب ونشر اسمه للرأي العام، فضلاً عن فصله من عضوية المجلس في حال تغيّبه عن خمس جلسات متتالية دون عذر مشروع.
وقال عضو اللجنة، محمد عنوز، إن "التوافق السياسي يغيب عملية تطبيق القانون والنظام الداخلي للمجلس، ووصل الأمر إلى تجاهل الجلسات وتعطيل القوانين التي تخدم مصالح المواطنين"، لافتاً إلى أن هذه الإجراءات لم تُطبق فعلياً بسبب الاتفاقات والمجاملات بين الكتل.
وكانت رئاسة مجلس النواب قد وضعت في عام 2024 آلية جديدة تتضمن استقطاع مليون دينار عن كل جلسة غياب، و500 ألف دينار عن الغياب في اجتماعات اللجان النيابية، إلا أن التطبيق الفعلي لهذه الآلية لم يتم حتى الآن.
وفي مؤشر على عمق الأزمة، كشفت تقارير نيابية عن وجود نحو 80 نائباً "فضائياً" داخل البرلمان، أي أنهم متغيبون تماماً عن جلسات المجلس منذ بداية الدورة الحالية (الخامسة)، دون أن تكون لهم أي صور أو سير ذاتية داخل قبة البرلمان، ما أثار جدلاً واسعاً حول جدوى استمرار منحهم رواتب ومخصصات مالية من دون أداء فعلي.
وباتت ظاهرة تأجيل الجلسات بسبب غياب النواب من أبرز العقبات أمام عمل البرلمان العراقي، إذ تفشل الجلسات المتكررة في تحقيق النصاب القانوني اللازم لمناقشة مشاريع القوانين، خصوصاً تلك التي توصف بـ"المهمة"، مثل قوانين الموازنة، والمحكمة الاتحادية، والانتخابات.
ويرى مراقبون أن انشغال العديد من النواب بالحملات الانتخابية المقبلة، إلى جانب تعدد الولاءات السياسية والحزبية، ساهم في إضعاف الدور التشريعي للمجلس وتراجع وتيرة الأداء النيابي، الأمر الذي أدى إلى تراكم عشرات الملفات التشريعية المؤجلة بانتظار الحسم.
وفي السياق ذاته، كشف النائب ياسر الحسيني عن وجود "إرادة سياسية تهدف إلى استمرار تعطيل جلسات البرلمان لحين موعد الانتخابات المقبلة"، موضحاً أن "عدم قدرة مجلس النواب على عقد جلساته لا يعود لأسباب فنية أو تنظيمية، بل إلى توافقات سياسية خفية تسعى إلى إبقاء المجلس مشلولاً".
وأضاف الحسيني أن هذه القوى السياسية ترى في استمرار تعطيل البرلمان فرصة لتمرير الوقت وتجنّب الاستحقاقات الرقابية التي تفرضها المرحلة الحالية، مؤكداً أن هذا السلوك "يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ويضعف ثقة الشارع بالمؤسسات المنتخبة".
وكان البرلمان قد أخفق الأسبوع الماضي في عقد جلسة كانت مخصصة لمناقشة والتصويت على 11 مشروع ومقترح قانون بسبب عدم اكتمال النصاب، وهي المرة الثالثة التي يُلغى فيها انعقاد الجلسة خلال أيام قليلة.
من جانبه، اتهم النائب أرشد الصالحي عدداً من الكتل السياسية بالسعي المتعمّد لتعطيل عمل مجلس النواب بهدف منع مناقشة ملفات استجواب لمسؤولين متهمين بالفساد وسوء الإدارة، محمّلاً رئاسة البرلمان المسؤولية المباشرة عن استمرار هذا التعطيل.
وقال الصالحي إن "الجهات المتنفذة تحاول تجنّب الاستجوابات التي قد تطيح بمسؤولين محسوبين عليها، لذلك تعمل على تعطيل الجلسات بشكل ممنهج"، مشدداً على أن "رئاسة المجلس مطالبة بإجراءات حازمة تجاه النواب المتغيبين وتجاه الكتل التي تتلاعب بالجلسات".
ويرى باحثون في الشأن السياسي أن استمرار تعطيل البرلمان يضرّ بالعملية التشريعية ويؤثر سلباً على ثقة المواطنين بالسلطة التشريعية، خصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة وتزايد المطالب الشعبية بإقرار قوانين تمسّ معيشة الناس.
يقول الباحث السياسي سيف عدنان أن "تعطيل البرلمان في هذا التوقيت الحساس يعني شللاً مؤسساتياً كاملاً، لأن الحكومة لا تستطيع تمرير تشريعات إصلاحية دون غطاء نيابي"، مبيناً أن "القوى السياسية تتعامل مع البرلمان بوصفه ورقة تفاوضية وليس مؤسسة دستورية مستقلة".
وبينما تتصاعد الدعوات لتفعيل النصوص القانونية الرادعة ضد النواب المتغيبين، يرى مراقبون أن تغليب التفاهمات الحزبية على الالتزام المهني سيبقي البرلمان رهينة للمصالح السياسية حتى موعد الانتخابات المقبلة، ما لم تتخذ الرئاسة واللجان إجراءات واقعية تعيد للمجلس هيبته ودوره الدستوري.