بغداد _ العالم
رغم إعلان الحكومة تحقيق وفرة مؤقتة في مخزون القمح، إلا أن مؤشرات مقلقة تتصاعد بشأن مستقبل الأمن الغذائي في البلاد، في ظل تفاقم أزمة المياه، وتراجع الإنتاج الزراعي، والاعتماد المتزايد على الواردات.
وأشار تقرير حديث إلى أن الحكومة اشترت في أيلول/سبتمبر الماضي نحو 5.1 مليون طن من محصول القمح لموسم 2025، مؤكدة أن هذا المخزون يكفي لتغطية الاحتياجات المحلية لمدة عام كامل. غير أن هذه الوفرة، بحسب مختصين، لا تعكس استقراراً طويل الأمد، بل تمثل هدنة قصيرة قبل عودة الضغوط الهيكلية على القطاع الزراعي.
ونقل التقرير عن مصادر متخصصة، من بينها خبير المياه في مركز التغير المناخي، هاري ستيبانيان، تحذيرات من أن العراق مرشح للعودة مجدداً إلى زيادة استيراد القمح، نتيجة التغيرات المناخية، وشح الواردات المائية، وتراجع الإنتاج المحلي. ويرى هؤلاء أن هذا المسار سيعرّض البلاد لمخاطر أكبر، أبرزها ارتفاع أسعار الغذاء، وما يرافق ذلك من ضغوط على الميزانية العامة، والتجارة، والاستقرار الاجتماعي.
ويقول ستيبانيان إن "أزمة الأمن المائي والغذائي في العراق لم تعد مجرد مشكلة بيئية، بل تحولت إلى قضية ذات تداعيات اقتصادية وأمنية فورية"، مشيراً إلى أن استمرار تراجع مناسيب المياه في دجلة والفرات، وتقلص الإطلاقات المائية، سيقوض قدرة البلاد على الحفاظ على مستويات إنتاج مستقرة من المحاصيل الاستراتيجية.
وبحسب تقديرات أولية صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، فإن حاجات العراق من واردات القمح للموسم التسويقي 2025–2026 ستبلغ نحو 2.4 مليون طن، وهو رقم يعكس اتساع الفجوة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك، رغم الدعم الحكومي لزراعة القمح خلال السنوات الماضية.
وفي محاولة للحد من تأثير شح المياه السطحية، لجأت وزارة الزراعة إلى تخصيص 3.5 مليون دونم في المناطق الصحراوية لزراعة القمح بالاعتماد على المياه الجوفية، شريطة استخدام أساليب الري الحديثة، ولا سيما الري بالرش والتنقيط. ويهدف هذا التوجه إلى تعويض النقص في المياه النهرية، وتحقيق قدر من الاستدامة الزراعية في المناطق غير التقليدية.
غير أن هذا الخيار لا يخلو من المخاطر. فقد نقل التقرير عن مستشار وزير الزراعة، مهدي ضمد القيسي، قوله إن "الخطة الزراعية وضعت على مرحلتين، وهي مشروطة باستخدام تقنيات الري الحديثة"، مؤكداً أن أي إخلال بهذه الشروط سيؤدي إلى استنزاف خطير للمياه الجوفية.
وفي السياق نفسه، أشار التقرير إلى أن الحكومة قررت حظر زراعة الأرز في معظم المناطق، نظراً لاستهلاكه كميات كبيرة من المياه مقارنة بالقمح، في خطوة تعكس أولوية إدارة الموارد المائية على حساب تنوع المحاصيل.
من جانبه، حذّر مدير هيئة الآبار والمياه الجوفية في جنوب العراق، عمار عبد الخالق، من الاعتماد المفرط على الآبار، موضحاً أن إنتاج طن واحد من القمح يتطلب نحو 1100 متر مكعب من المياه. وأضاف أن الاستمرار في سحب المياه الجوفية دون دراسات علمية دقيقة سيؤدي إلى تراجع الخزين الاستراتيجي، وربما إلى تملّح التربة وفقدان صلاحيتها للزراعة مستقبلاً.
وعلى مستوى المزارعين، بدأت تداعيات الأزمة تنعكس بشكل مباشر على سبل العيش. فقد اضطر أحد المزارعين، المعروف باسم الفتلاوي، إلى تقليص مساحة زراعة القمح إلى خُمس مستواها المعتاد هذا الموسم، وتسريح 8 من أصل 10 عمال كانوا يعملون لديه. ويقول: "نحن نعتمد بشكل رئيسي على مياه الأنهار، ومع انخفاض الإطلاقات لم يعد بالإمكان الاستمرار بنفس المساحات".
وتكشف هذه الشهادات الميدانية أن أزمة القمح في العراق لم تعد مرتبطة فقط بالإنتاج أو التسويق، بل باتت تمس الاستقرار الاجتماعي والعمالة الريفية، ما ينذر بتداعيات أوسع في حال استمرار الظروف الحالية دون حلول استراتيجية شاملة.