حسن فحص
لم يكن عنوان "الوحدة الوطنية" الذي رفعه رئيس الجمهورية الإيرانية مسعود بزشكيان كشعار ومنهاج للحكومة التي يشكلها من باب الترف السياسي، بل نابع من إدراك عميق لديه ولدى الدولة العميقة بحجم الانقسام القائم داخل الحياة السياسية الرسمية والحزبية، وحتى الاجتماعية، حول طبيعة التحديات التي تواجهها إيران في هذه المرحلة.
الشعار الذي وافقت عليه وقبلت به منظومة السلطة لم يكن ليحصل لولا شعورها بضرورة إعادة ترميم مشروعيتها السياسية والاجتماعية، والسكوت عن هذا العنوان وتمسك بزشيكان به في كل مواقفه وسياساته، يشكل مؤشراً على حجم التحول في موقف هذه المنظومة التي كانت ترفض ذلك في السابق وتسارع إلى اتهام من يرفعه أو يدعو إليه بالخيانة أو التضاد مع النظام الإسلامي وحاكمية ولاية الفقيه التي تعتبر محور هذه الوحدة وأساسها، كما حصل مع الرؤساء السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، وحتى مع رئيس البرلمان السابق مهدي كروبي ورئيس الوزراء مير حسين موسوي، وانتهت بعزلهم وإقصائهم وحتى فرض "سجن" الإقامة الجبرية على الأخيرين.
المواجهة بين إيران وإسرائيل، بخاصة بعد الاعتداء الإسرائيلي الواسع، الذي أدى إلى إلحاق خسائر قاسية وكبيرة في صفوف القيادة العسكرية الأولى وفي جسم العلماء النوويين، وما شكله من صفقة لمفهوم الأمن القومي والسيادة الوطنية، ووضعت النظام ومنظومة السلطة والقرار في دائرة الاستهداف والاتهام بالتفريط بالوحدة الوطنية والاستقرار وتهديد المصالح الاستراتيجية والحياتية للبلاد.
هذه المواجهة أعادت للواجهة مفهوم "معنى الوطن" والأبعاد المقصودة من "الوحدة الوطنية" الذي تحول إلى شعار المرحلة في إيران، لكن هذه المرة من منطلقات مختلفة، عبرت عن توجهات ومواقف كل واحد من الأحزاب والقيادات السياسية والحزبية والاجتماعية والثقافية بمختلف مشاربها الفكرية والعقائدية، حتى وإن كانت على اختلاف أو خلاف مع النظام الإسلامي.
على المستوى الداخلي والمواقف التي صدرت عن القوى والأحزاب السياسية وحتى الثقافية والفكرية، لا يمكن القول بوجود خلاف حول الموقف من الاعتداءات الإسرائيلية والتمسك بالدفاع عن الوطن، إلا أن الانقسام بين هذه القوى والأحزاب يبدأ من مفهوم الوطن لدى كل منها، بين من يرى إيران أولاً بما تمثله من وحدة أراض وسيادة وحرية وكل المكونات الفكرية والعقائدية والقومية والإثنية بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم ومبتنياته الفكرية والعقائدية، وبين من يضع الوطن في سياق فهم محصور في الولاء للجمهورية الإسلامية وحاكمية ولاية الفقيه، والخروج عنهما قد يخرج المعارض أو المخالف من دائرة الوطنية ويضعه في دائرة الخيانة. وبناء على هذا التمايز، يمكن فهم المواقف الصادرة عن الرئيسين محمد خاتمي وحسن روحاني، ومعهما عدد من الأحزاب والقيادات السياسية التي توصف بالإصلاحية أو المعارضة، التي انطلقت في موقفها الوطني من قراءتها الخاصة بمفهوم الوطن الذي يعني الحرية والشراكة والتعدد والتنوع الضامن للوحدة الوطنية والسيادة، والعامل الفاعل في توفير أسس الصمود والدفاع عن وحدة الأراضي الإيرانية واستقلالها واستقرارها.
وهذه المواقف ابتعدت من إثارة الحساسيات وغلبت المصلحة الوطنية ومصير إيران، بما هي وطن لجميع الإيرانيين، ولم تذهب إلى إحياء المواقف الخلافية مع النظام، بل رأت في المرحلة الدقيقة مناسبة لتعيد السلطة الحاكمة حساباتها في التعامل مع التنوع الإيراني، وضرورة الخروج من التعريف الضيق للولاء العقائدي بما هو عنوان للوطنية.
بين إيران والقنبلة النووية 5 أسابيع... انظروا إلى الصين
وإذا ما كانت المعارضة الداخلية، أو القوى والأحزاب التي تصنف في خانة "عدم الولاء" لنظام ولاية الفقيه، قد خرجت بموقف موحد بضرورة الدفاع عن إيران ودعم الحكومة في سياسة الوحدة الوطنية، فإن أحزاب المعارضة وأقطابها في الخارج، كانت أكثر وضوحاً في مواقفها ومنطلقاتها في التعامل مع التطورات وما تشهده إيران من عدوان إسرائيلي.
وإذا ما كانت القوى السياسية الإيرانية المعارضة سواء ذات المنطلقات القومية كالجبهة الوطنية أو الأحزاب اليسارية أو التشكلات الناتجة من التحولات الماركسية بمختلف عناوينها، أعلنت بوضوح إدانتها للاعتداءات الإسرائيلية ودعت إلى ضرورة الدفاع عن إيران ووحدتها وسيادتها في مواجهة هذا العدوان، إلا أنها لم تتخل عن موقفها الانتقادي والمعادي للنظام الإسلامي، وتحميلها مسؤولية ما آلت إليه الأمور من تداعيات نتيجة سياساتها الخارجية المبنية على أبعاد أيديولوجية وعقائدية، وهي سياسات تراكمت عبر السنين من خلال السلوكيات السياسية والأمنية التي مارسها ضد القوى السياسية المعارضة.
وفي مقابل موقفها السلبي من الاعتداءات الإسرائيلية، ودعوتها إلى الدفاع عن إيران، وتأكيد تناقضها مع الكيان الإسرائيلي وسياسته وطموحاته واستراتيجياته، إلا أنها لم تغادر موقفها الثابت في العمل على إنهاء السلطة الدينية في إيران، وضرورة العمل من أجل التخلص من نظام ولاية الفقيه والجمهورية الإسلامية، لكن بإدرات وإرادات إيرانية وآليات ديمقراطية تخدم أهداف وطموحات شرائح إيرانية مختلفة ومتنوعة توحدت وراء هذا الهدف، لا خدمة لمشاريع خارجية خاصة إسرائيلية.
وبعيداً من كل الخلفيات الفكرية والعقائدية، يمكن القول بكثير من الوضوح إن الشعور القومي والوطني لدى الغالب الأعم من الإيرانيين، بكل مكوناتهم ومشاربهم القومية والإثنية، يتفق في الدفاع عن إيران أمام أي اعتداء أو هجوم، وهذا الشعور كان السبب لاستهجان وإدانة كثير من الإيرانيين في الداخل والخارج الموقف الصادر عن ولي العهد للنظام الملكي السابق رضا بهلوي، والحائزتين على جائزة نوبل شرين عبادي ونرجس محمدي، الذين ابتعدوا من إدانة العدوان الإسرائيلي، وصولاً إلى تعرض زعيم حزب العمال الشيوعي حميد تقوائي لموجة انتقادات داخل الحزب والقوى اليسارية لوقوفه مع الهجوم الإسرائيلي ضد إيران باعتباره يمهد الأرضية للقضاء على الجمهورية الإسلامية والنظام الديني الدكتاتوري، في انسجام مع الأهداف التي سبق أن أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووضعها كأهداف لهذا الهجوم.
المعارضون لهذه المواقف اتهموا أصحابها بالتخلي عن الشعب الإيراني الذي تعرض لخسائر بشرية ومادية كبيرة جراء الضربات الإسرائيلية، من أجل مصالحهم السياسية الضيقة وطموحهم بأن يكونوا بديلاً عن النظام والسلطة القائمة في حال حصول تغيير أو قلب النظام، خصوصاً وأن اكثر من 90 في المئة من الخسائر البشرية هي في صفوف المدنيين من نساء وأطفال، وهي الخسائر التي استثمر فيها النظام وعمل على إبرازها وتأكيدها، بهدف تحشيد الصفوف الداخلية وراء خياراته السياسية والعسكرية، ولإبعاد الأنظار والتركيز على ما لحق بقياداته العسكرية من خسائر قاسية واستراتيجية.