بغداد - وكالات
في قلب الحرم المكي، حيث تهفو القلوب وتطمئن الأرواح، تقف الكعبة المشرفة البيت العتيق، وقد اكتست بحلّتها السنوية الجديدة، بمشهد مهيب يتكرر في كل عام، يحمل في تفاصيله دلالات روحانية عظيمة، وتاريخاً ضارباً في القدم، يفيض بالفخر والإجلال.
تقع ورشة صناعة الكسوة في مكة المكرمة، وتحمل اسم (مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة المشرفة) وهو المركز الوحيد في العالم المتخصص بهذه المهمة الجليلة.
يضم المجمع نحو 159 عاملاً وفنياً من أمهر النسّاجين في العالم الإسلامي، يعملون بدقة على مدار العام.
تبدأ رحلة الكسوة بخيوط حريرية خالصة، تُستورد بعناية فائقة من إيطاليا، لتحوّل في المجمع إلى نسيج أسود فاخر، يطرّز يدوياً بخيوط من الذهب والفضة.
يقول أحد العاملين، الذي أمضى 45 عاماً في هذه الخدمة المباركة: "نحن لا ننسج قماشاً... بل ننسج قدسية، نغزل الإيمان، ونطرز الجلال".
تتزين الكسوة بآيات كريمة كُتبت بخط الثلث المهيب، أبرزها: "قل هو الله أحد"، وعبارات مثل: "يا حي يا قيوم"، "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، تُطرّز داخل قناديل تزيّن جوانب الكسوة. ويبلغ طول الكسوة نحو 14 متراً، وتغطيها قطع مطرزة يدوياً تدوّن عليها أسماء الله الحسنى وآيات الذكر الحكيم. ما لا يعرفه كثيرون، أن الجزء الداخلي من الكعبة مكسو بقماش أخضر مزخرف، تتخلله آيات بينات من القرآن الكريم، تحيط بجدرانها.
يُجرى تغيير الكسوة كل عام في غرة شهر المحرم الحرام، بعد صلاة الفجر، في مشهد بالغ الروحانية، يتم فيه تسليم الثوب الجديد إلى كبير سدنة البيت الحرام.
وتُنقل الكسوة في موكب خاص، وتُستبدل بأخرى جديدة، تُعلّق بحبال مذهّبة من الزوايا الأربع.
تُعدّ الكسوة تحفة فنية باهظة الثمن، إذ تبلغ تكلفتها نحو 25 مليون ريال سعودي، بسبب المواد الفاخرة المستخدمة، والعمل اليدوي المتقن، ومدة التحضير التي تستغرق أكثر من عشرة أشهر من العمل المتواصل. وتعود عادة كسوة الكعبة إلى عصور قديمة، إلا أن المملكة العربية السعودية تولّت رسمياً تصنيعها داخلياً منذ أكثر من مئة عام، في خطوة تُعبّر عن الاعتزاز بخدمة الحرمين الشريفين، وتعظيم الشعائر.
ليست الكسوة مجرد قماش، بل هي سُنة، وفن، كل خيط فيها يحمل عبق القداسة، وكل غرزة تسجل اسم خادم للحرم.
وفي موسم الحج، تصبح الكسوة شاهداً صامتاً على ملايين القلوب التي تلبي نداء الله، وتطوف حول البيت العتيق، بثوب جديد... وعهد جديد.