إبراهيم العريس
هناك سؤال لا مفر دائماً من طرحه: لماذا انتظر الموسيقي الروسي – الأكثر شرقية على أية حال، وسنقول لماذا، بعد سطور رمسكي - كورساكوف ما يزيد على 10 سنوات قبل أن يقدم على ما اعتبر لوهلة، خطوة مجنونة من جانبه تمثلت في العودة بموسيقاه الروسية الشعبية الخالصة إلى مسرحية لمواطنه ألكسندر أوستروفسكي. ولم يكن جنون الخطوة في نظر المعلقين سوى أن صاحب "شهرزاد" و"عنترة" بين أعمال موسيقية من تأليفه استلهمت التراث الشرقي الخالص، تعمد أن ينتظر ما يقارب الـ10 سنوات قبل أن يقدم على موسقة تلك المسرحية الغريبة في مسار أوستروفسكي، والمعنونة "سنيغوروشكا" (زهرة الثلج).
والحال أننا هنا، وقبل أن يتحول السياق إلى أحجية مليئة بأسماء قد تنغلق على قارئنا العربي، لا بد من أن نوضح بعض النقاط. فمن ناحية "شرقية" رمسكي - كورساكوف تتضح هذه الشرقية من خلال عمليه اللذين ذكرناهما أعلاه والمستلهمين، وإن لم يكن بصورة مباشرة، من شخصيتين هما الأشهر في التراث العربي. ونعرف على أية حال أن القصيدتين السيمفونيتين كانتا علامتين في توجه رمسكي – كورساكوف مع مجموعة "الخمسة" لوضع التراث المحلي والشرقي بديلاً للتغريب الذي كان قد انصرف إليه تشايكوفسكي الكبير ورفاقه. والواقع أن ذكر تشايكوفسكي هنا ليس صدفة، بل يتعلق تحديداً بما ذكرناه من "خطوة مجنونة". ذلك أن ما أقدم عليه رمسكي – كورساكوف عام 1882 لم يكن سوى تلحين أوبرا كاملة انطلاقاً من "زهرة الثلج" نفسها. فأين "الجنون" في ذلك؟
ونقول هنا "موسق" ولا نقول "لحن" لسبب جوهري وهو أن صاحب "فتاة الكبة" و"يوجين أونيغين" الذي كان يعتبر حينها كبير الموسيقيين الروس من دون منازع، وبالنسبة إلى مجموعة "الخمسة" العدو "الغربي" الذي ينبغي محاربته، لم يهتم كثيراً بمكانته حين اشتغل على التقديم الصاخب لمسرحية أوستروفسكي، فكتب لتقديمها المسرحي مقاطع موسيقية ولحن لبعض فصولها أغنيات لم ترق لا إلى مستوى أعماله الكبيرة السابقة، ولا على وجه الخصوص إلى مستوى مُتوخَّى لمسرحية أوستروفسكي، بل بالتحديد للتجديد الذي مثلته تلك المسرحية في المسار الإبداعي للكاتب نفسه. فالواقع أن "سيغوروشكا" أتت فريدة بالنسبة إلى مسرح أوستروفسكي الذي اعتاد أن يراوح ما بين المواضيع الاجتماعية الهزلية وبين المسرح التاريخي ودائماً في سياق واقعية تكاد تكون مفرطة. لكن "زهرة الثلج" أتت مغايرة لذلك. أتت رومانسية تكاد تنتمي إلى أدب الجن والسياق العاطفي. باختصار أتت وكأنها وليدة مخيلة تقف على الضد من تلك التي هيمنت على مسرح أوستروفسكي ذي الشعبية الهائلة لدى الجمهور الروسي العريض، وربما في العالم الخارجي كذلك. وربما انطلاقاً من تلك الفرادة التي لم يلتقطها تشايكوفسكي خلال مرحلة مضطربة من حياته، لم يأخذ تلحينها حين عهد إليه بذلك، على محمل الجدية. فإذا به ومن دون أن يدري، في موسقته هذا العمل، يطبق واحداً من أشهر عناوين مسرح أوستروفسكي نفسه، "لكل عالم هفوة" جاعلاً من الألحان التي وضعها للعمل العتيد هفوته التي ستتيح لخصمه الأكبر في عالم الموسيقى، رمسكي - كورساكوف، أن يهزمه، ولكن ليس بـ"الضربة القاضية" لحسن حظه.
والحقيقة أن رمسكي – كورساكوف وعلى عكس تشايكوفسكي، لم يكن في حاجة إلى الغوص بعيداً لاستلهام مزاج شعبي روسي عريق وأصيل يسم الموسيقى التي وضعها لـ"زهرة الثلج". فموسيقاه أصلاً تنتمي إلى ذلك المزاج الشرقي الذي يبدو متناغماً مع التراث الشعبي الروسي في تواصل جغرافي تاريخي يؤمنه الامتداد الجنوبي للإمبراطورية الروسية، حيث المناطق المسلمة والتراث الغائص في رومنطيقيات الشرق وما إلى ذلك فيما كان المزاج الأوكراني الممتد إلى الغرب من إمبراطورية القياصرة في انفتاحها على أوروبا وحداثاتها، يستخدم كممر لاستلهام الرومانسية الغربية. ومن هنا وبعد تردد طويل فرضته هيبة الموقف ومكانة تشايكوفسكي، التقط رمسكي – كورساكوف خيطاً يعكس إخفاق مواطنه الكبير في التقاط اللحظة المتاحة للدنو من "شرقية" ما، يستسيغها الجمهور الروسي العريض وتبدو اليوم متاحة بفضل نص أوستروفسكي، فواءم بين مزاجه التراثي المستشرق وبين مزاجية "زهرة الثلج" ليضع موسيقى لذلك العمل الأوبرالي الذي بدا حين قدم للمرة الأولى عام 1882 جديداً تماماً إنما يتطابق مع نظريات مجموعة "الخمسة" ومع ما يمكن أن يعزى إليه الجوهر الفعلي لمسرحية أوستروفسكي التي يبدو أنها كانت بدورها تستلهم المفاهيم المحلية التي تنادي بها تلك المجموعة. باختصار، لم يلتقط تشايكوفسكي اللحظة، فأقدم رمسكي – كورساكوف على التقاطها. صحيح أن الموسيقى التي وضعها هذا الأخير لهذا العمل، لم ترق إلى جهوده الموسيقية في تلحين عمليه "العربيين" الكبيرين، ولا طبعاً مكنته من التفوق المطلق على تشايكوفسكي، لكنها ساعدته على الانتصار ولو في تلك الجولة الوحيدة، على كبير الموسيقيين في بلده. ولم يكن ذلك بالأمر الهين على أية حال.
وذلك لأن نص أوستروفسكي نفسه يتضمن عديداً من الاحتمالات التي قد ينطق بها العنوان نفسه، "زهرة الثلج"، حيث لدينا هنا مزيج من أعتى أنواع الدفء والحنان متمثلاً في الزهرة، وفي مقابل أقسى درجات الصقيع التي يمثلها الثلج في برودته المطلقة. ويجتمع هذان البعدان في فؤاد الحسناء "سنيغوروشكا" التي يعني اسمها ذلك المزيج نفسه، مما يعكس كونها غير قادرة على الحب في موطنها النائي في إمبراطورية القيصر بيرينداي، لكن ابنة الفلاحين البسطاء هذه تجد نفسها يوماً تواقة إلى الحب مع علمها بأن السيد الأسطوري الأكبر هنا قادر على، وتواق إلى، تحطيمها وكسر فؤادها بإذابة جليده إن هي فعلت. وهي رغم حذرها لن تبالي حين يغرم بها الفتى ميزغير مفضلاً إياها ما إن يراها على موعودته كوبافا التي تشتكي أمرها إلى القيصر الذي يقرر أن على الحسناء الجليدية أن تتزوج، ومن دون حب بالتأكيد، في صباح اليوم التالي تحسباً لحلول موسم الخصب. لكن سيغوروشكا لا تريد الآن أن تمتثل للقرارات السلطوية فتلجأ إلى آلهة الربيع لتساعدها في الخلاص من ذلك الجور الواقع عليها، ولتتمكن بالتالي من أن تحب. وترتضي تلك الآلهة بمساعدتها شرط أن تبقى بعيدة من نور الشمس ودفئها... لكن الحسناء إذ ترى أن الرقص في احتفالات العرس والخصوبة لا يكون له من معنى بعيد من دفء الشمس، تغوص راقصة ما إن يبدأ الاحتفال فيكون مصيرها في انتظارها كما في انتظار حبيبها بالتأكيد.
ومن الواضح هنا أن هذا العمل الذي استقاه أوستروفسكي من التراث الشعبي الروسي كما استقاه إلى حد كبير من مسرحية شكسبير العاطفية الكبرى "حلم ليلة صيف"، أتى عابقاً باحتمالات فات تشايكوفسكي الواثق من نفسه ومن فنه في تلك المرحلة من حياته أن يستفيد منها. فكان أن قفز رمسكي - كورساكوف على المناسبة ليلحن النص كأوبرا ترتبط بالفولكلور الشعبي كما يروق للجمهور العريض.
نجاح مطلق لعرض أول
وهكذا، ومن دون أن يبدو على تشايكوفسكي بعد نحو عقد من تقديمه تصوره الموسيقي لذلك العمل، تصوراً لا بد من الإشارة إلى أية حال، إلى أنه جمع بين تقنية الحوارات المسرحية المرتلة على طريقة الأوراتوريو، والشذرات الأوبرالية من ناحية، وشيء من تحديث الغناء الكورالي إنما على الطريقة الإغريقية القديمة المفسرة للأحداث والدافعة الجمهور للتعاطف مع ما يحدث أمامه على الخشبة، دون أن يبدو عليه إحساس بتفوق زميله اللدود عليه، قدم هذا الأخير عرضاً صاخباً لتفسيره الموسيقي، الفولكلوري والعاطفي والمرتبط بأجواء احتفالات الخصب الديونيسية ومشاهد الإحساس بتعاقب الفصول، بصورة أثارت حماسة المشاهدين، ولكن فقط إلى حين، أي خلال فترة تمتع فيها رمسكي – كورساكوف بمكانة قربته من تشايكوفسكي، ولكن، على أية حال، ليس أكثر مما ينبغي من منطلق أن "سنونوة واحدة لا يمكن أن تصنع ربيعاً".