د. موفق مجيد
رغم أن العراق كان من أوائل البلدان العربية التي عرفت السينما وافتتحت أولى دور العرض منذ عشرينيات القرن الماضي، إلا أن حال الفن السابع اليوم يُرثى له. فبين غياب الدعم المؤسساتي، وتفكك البنية التحتية الثقافية، وانحسار الوعي المجتمعي بأهمية السينما، أصبح الحديث عن نهضة سينمائية عراقية أقرب إلى الحلم المؤجل.
السينما ليست مجرّد أفلام تُعرض، بل هي منظومة متكاملة تحتاج إلى مؤسسات، تمويل، تشريعات، فضلاً عن بيئة حاضنة للإبداع. وهذه كلها تكاد تكون معدومة في العراق اليوم. المركز العراقي للسينما والتلفزيون، والمؤسسات الفنية التي كانت فاعلة في العقود الماضية، تحوّلت إلى هياكل مهملة، تُمارس أدوارًا شكلية، دون خطة إنتاج حقيقية، أو رعاية للمواهب الشابة.
مهرجانات محلية تُقام بين حين وآخر، لكن دون جدوى تُذكر. فهي بلا جمهور حقيقي، وتستخدم غالبًا كغطاء لعلاقات عامة لا تُثمر عن أعمال رصينة أو إنتاجات ذات بُعد جمالي وإنساني. المخرج العراقي اليوم إما مغترب يبحث عن نافذة إنتاج في الخارج، أو يعيش حالة قهر داخلي بين حلمه والكاميرا المعطلة.
في ظل غياب الدولة، تحاول بعض المبادرات الفردية إنقاذ ما يمكن إنقاذه. نشهد بين الحين والآخر أفلامًا قصيرة أو وثائقية، تُنتج بجهود شخصية أو دعم خارجي، لكن هذه الأعمال تبقى استثناءً لا يُبنى عليه. فصناعة السينما لا تنهض بفرد، بل بمؤسسة، بخطة، بتمويل مستدام، وبسوق داخلي يُقدّر هذا الفن.
والأدهى من ذلك أن الجمهور نفسه تغيّر. لم تعد هناك ثقافة الذهاب إلى السينما، فمعظم دور العرض أُغلقت، أو تحوّلت إلى محال تجارية، ومعها أُغلق بابٌ من أبواب الحلم. لا الطفل يرى بطلًا عراقيًا على الشاشة، ولا الشاب يجد قصة تحاكي معاناته، ولا المخرج يحظى بمنصة تعبّر عن رؤيته.
في زمن تستخدم فيه السينما كسلاح ثقافي ناعم، تترك الدولة العراقية هذا السلاح صدئًا على الرف. فهل ننتظر أن تنتج جهات خارجية قصصنا، بطريقتها هي؟ وهل نرضى أن تختفي صورة العراق من شاشة العالم، في وقت تتسابق فيه الشعوب على صناعة ذاتها من خلال الفن؟
إن إنقاذ السينما العراقية لا يحتاج إلى خطاب عاطفي فقط، بل إلى إرادة سياسية ومشروع ثقافي وطني. فالفن السابع ليس ترفًا، بل رافعة للهوية، ومساحة للوعي، وجسرًا بين الأجيال. وحين تُترك هذه الرافعة لتسقط، يسقط معها الكثير من الذاكرة.
ربما لا تزال الكاميرا بيد العراقي، لكن ما لم تُفتح أمامه أبواب الإنتاج، سيبقى يصور في الظل... ويعرض في الصمت.