مصطفى محمد
قبل قرابة ثلاثة أشهر، فتحت باب شرفة المنزل في الطابق الأول. لاحظت في أقصى زاوية، ركنتْ راية بشكل مائل، انجذبت نحوها من دون قصد، رفعتها، نفضت عنها الغبار، استنشقته، أعدتها الى مكانها.
اليوم، في ساعة متأخرة من الليل، عدت الى البيت. وجدت تلك الراية السوداء ترفرف بفعل السموم، فوق المنزل؛ ففي الإيقونوغرافيا الشيعية يرمز اللون الأسود الى الحزن والأسى. وهنا تنبئ هذه الراية بقدوم شهر المحرم الحرام. وقفت قليلا تحتها: يداي مستقرتان أسفل ورأسي الى أعلى متأملا تلك الراية السوداء. منذ متى وهي ترفرف. دفعنا الكثير كي تبقى ترفرف عاليا في أعالي منازلنا وقبابنا.
حاولت أن أُشعِر زوجتي أني مهتم لرفع تلك الراية. قالت إنها أقامت مراسيم رفعها قبل يومين: الجيران فعلوا ذلك أيضا.
علاقة الشيعية مع عاشوراء مسألة هوياتية، قصة انتماء، لا علاقة لها بسلوك الشيعي اليومي: طريق كربلاء يوحد الجميع. فقلوب هؤلاء الناس تولي سويداءها صوب قبلة الأحرار. وأحدهم يقدم الكثير.. الكثير من الأسباب التي تجعله يرفع تلك الراية.
ففي الوعي الشيعي، لا يُذكر الإمام الحسين إلا مقرونًا بالألم، والمأساة، والوقوف في وجه الظلم. هذه العلاقة الروحية والشخصية التي تربط الفرد الشيعي بالإمام تتجاوز حدود العقيدة، لتدخل في تفاصيل الحياة اليومية، والطقوس، والرموز. وهنا تحضر الراية السوداء كأكثر العلامات تعبيرًا عن الحزن والانتماء. فحين تُرفع الرايات السود في المحرم، لا تكون مجرد إعلان عن موسم عزاء، بل تصبح بيانًا وجوديًا، وتجديدًا للعهد، وتعليقًا دائمًا على الواقع السياسي والاجتماعي. فاللون الأسود لا يمثل فقط الحداد، بل يحمل دلالة مقاومة، تحدٍ، احتجاج صامت. إنه لون الثكالى، وراية الثائرين أيضاً.
في كثير من الأحيان، تتخذ هذه الراية طابعًا عائليًا متوارثًا؛ فهناك من يحتفظ براية من عاشوراء قبل عشرين سنة، وربما كتب عليها بخط يده "يا حسين"، وتحوّلت إلى جزء من قدسياته المنزلية.
وبرغم ارتباط الرايات السوداء بالحزن، فإن الحسين في الوعي الشيعي ليس فقط رمزًا للمأساة، بل هو أيضًا رمز للكرامة والحرية. ولذا، لا يُكتفى بالبكاء عليه، بل يُجسّد كرمزٍ دائم للرفض، وللسؤال السياسي والأخلاقي: "أين تقف؟ مع الحسين أم مع يزيد؟".
كربلاء، ليست واقعة تاريخية جامدة في الوعي الشيعي، بل هي سردية مفتوحة، تُعاد قراءتها بحسب مقتضيات الزمن. إنها قصة الظلم الذي لا يُنسى، والحق الذي لا يُقهر، والصوت الذي لا يسكت. من هنا، تنبع قوة الإمام الحسين بوصفه رمزًا حيًا، يتجاوز القرون ليُعبّر عن كل قهر سياسي، وكل فقر اجتماعي.
في هذه السردية، يتحوّل الحسين إلى مرآة لمظلوميات الحاضر، ويصبح كل زمن عاشوراء، وكل أرض كربلاء، وكل فرد مظلوم هو "شيعة الحسين"، وإن لم يكن شيعيًا بالمعنى الطائفي، لأن المعركة باتت أوسع من الانتماء الديني.
هكذا، تصبح الراية السوداء مرآة لعلاقة الفرد بالإمام الحسين. علاقة لا تُقاس بالزمن ولا تُحدّد بالعقل فقط، بل تُعاش، وتُذرف، وتُعلّق، وتُرفع، وتُبكى. الراية السوداء في بيت شيعي ليست زينة، بل وثيقة انتماء إلى قضية لم تنتهِ بعد، وأنها قائمة في كل ظلم، ومستمرة في كل مقاومة.