عامر بدر حسون
قضيت وقتا طويلا (ممتعا ومحزنا) في قراءة محاضر محكمة الشعب.
ووجدت انها مصدر مهم لم يعتمد بعد لتاريخ العراق في العهد الملكي، وخصوصا من الباحثين والمهتمين بتوثيق تاريخ البلد.
ووجدت ان وصف المحكمة بانها كانت مدرسة سياسية للشعب هو وصف صحيح تماما.. فالمعلم والمدير كانا من الضباط الاحرار، وهما قدما طيلة جلسات المحكمة وجهة نظر الضباط الاحرار بكل شيء: اسلوبا ومضمونا.
وتجسد الاسلوب في فضح المتهمين سياسيا وفضح النظام الملكي، وايضا اهانة المتهمين والسخرية منهم (بمن فيهم من ثبتت براءته) وهذا (وارجو ان تنتبه لهذا) مناسب للجماهير ومنسجم مع فهمها لفكرة المحكمة وكيفية محاكمة الخونة والمتآمرين.
اما المضمون فتجسد في قانون المحكمة، فهو صدر بمفعول رجعي، اي انه يحاكم على افعال لم تكن وقت القيام بها جرائم.. وقانون المحكمة يمتد الى محاسبة المتهمين بما قاموا به من العام 1939 حتى موعد المحاكمة!
ومعلوم ان المفعول الرجعي لأي قانون هو من اختصاص الحكومات الديكتاتورية، ولطالما عانى العراق على يد البعث خصوصا من القوانين ذات المفعول الرجعي.
والمحكمة لمن يهتم حقا بتاريخ الانقلابات وضباطها، يمكن اعتبارها اوضح مرآة انعكست عليها مؤامرات الضباط الاحرار ضد بعضهم، وسرعة تغيير تحالفاتهم ومواقفهم.. وايضا تفاهة الاسباب التي دعتهم للانقلاب على بعضهم!
واعتقد ان المتحمسين للمحكمة وهم غالبية يومذاك، لم يكن يهمهم القانون او الغرض من القانون والمحاكمات بقدر ما كان يهمهم الانتقام..
واظن ان من يؤيد او يتساهل مع خروج المحكمة حتى على قانونها الخاص، لا يحق لهم التظاهر بالألم من تعريف صدام للقانون بانه (ورقة عليها توقيع صدام).. وليتركوا هذا الالم لمن يرون في تجاوز السلطة على القانون اساسا لكل خراب!
وحتى اللحظة فان غالبية العراقيين (ساستهم ومثقفيهم خصوصا) يسخرون من القانون في نقاشاتهم السياسية والاجتماعية.
وما زال مجتمعنا ينظر لمن يلجا للشرطة او للقانون نظرة استصغار واتهام بالجبن والعجز (الحق بالسيف والعاجز يريد شهود) كما تقول هوستهم، وهي تكرار لاحتقار التلاميذ المتنمرين لمن يلجا للمعلم بالشكوى منهم!
ليس هذا نتاج محكمة الشعب وحدها وتعاملها مع القوانين، وانما هو نتاج ثقافة سائدة في مجتمع متخلف وقد عززت الانقلابات والسلطات الثورية فكرة احتقار القانون واعتبار من يلجا له حالما او جبانا!
واعتقد ان موقفنا من القانون هو وراء الاستقبال السيء لكتابتي عن محكمة الشعب، وهذا ناتج عن احتقار خفي ودفين لفكرة القانون في حياتنا واستبدالها بالشعار والراي السياسي.
وكما لكل عائلة "سر قذر" ترفض وتكره الحديث عنه، فكذلك الامر في ثقافتنا السائدة فهي ترفض الحديث حتى عن جرائم صدام والبعث.
لقد سجلت الكثير من الوقائع والملاحظات على محكمة الشعب، وهي تحتاج لعقل منفتح لقراءتها ومناقشتها، لكن عالم الفيسبوك هو غالبا عالم غرائز وتعصبات منفلتة.. وهو مثل حديقة "هايد بارك" يستطيع الخطيب الاعلى صراخا لفت الانتباه لما يقوله اكثر من غيره.
سأستمر بالطبع في نشر بعض ما دونته عن المحكمة والضباط الاحرار لكن من خلال التسلل للموضوع من "دربونة" جانبية!
اما البقية فسأضعها في كتاب، اخذ فيه راحتي مساحة وتفكيرا، وعلى امل ان يأتي زمن مختلف تنشط فيه جامعاتنا بفتح ملفات المحاكم السياسية والثورية وتأثيرها المدمر على البلد واهله وعلى تفكيرهم!
ودعواتكم يا انصار المحاكم الثورية لي بطول العمر!