د. موفق مجيد
منذ أن بدأت السينما تُعرض في بغداد مطلع القرن العشرين، لم تكن مجرّد وسيلة ترفيه، بل نافذة على العالم، وعلى الذات أيضًا. ومع تطور هذا الفن البصري، بدأ السؤال يتكرر داخل الأوساط الثقافية والاجتماعية:
هل السينما تصنع وعي الناس؟ أم أنها مجرد مرآة تعكس وعيهم؟ ربما لا يمكن الإجابة بحسم، لكن التجارب العالمية والعراقية تُرينا أن السينما كانت، ولا تزال، قوة ناعمة مؤثرة في تشكيل القناعات، تغيير السلوك الجمعي، وإثارة الأسئلة الكبرى.
في دول مثل مصر، لعبت السينما دورًا محوريًا في خلق وعي قومي، وفي محطات سياسية واجتماعية حاسمة. أفلام يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، وحتى كوميديا عادل إمام، لم تكن عابرة، بل ساهمت في إعادة تشكيل علاقة المواطن بالسلطة، بالدين، بالهوية، وبالشارع.
أما في العراق، فكانت السينما في فترات معينة مرآة أكثر من كونها فاعلًا. أفلام السبعينيات والثمانينيات، رغم جمالية بعضها، خضعت للرؤية الرسمية التي سعت لتجميل الواقع لا تغييره. لكن مع ذلك، تسللت بعض الأعمال التي كسرت القالب، وقدّمت رؤى نقدية وإنْ بحدود.
بعد 2003، ومع انفتاح العراق على تجارب العالم، ظهرت موجة من الأفلام القصيرة والوثائقية، حاولت أن تقول شيئًا مختلفًا. بعض هذه الأفلام لم تكتفِ بعرض المعاناة، بل سعت لتعرية الأسباب، وتحريض الجمهور على التفكير، كأنها تقول: نحن لا نعكس فقط، نحن نؤثّر أيضًا.
الحقيقة أن الأثر السينمائي لا يُقاس فقط بالجماليات أو بالمهرجانات، بل بمدى تفاعل الناس معه. وهنا، تعاني السينما العراقية من معضلة كبرى: غياب الجمهور السينمائي الحقيقي. فما فائدة فيلم واعٍ في غياب من يشاهده؟ وكيف يمكن صناعة وعي إذا كانت قاعات العرض مغلقة، والمنصات ضعيفة، والتعليم البصري غائب؟
السينما في جوهرها فن جماهيري، لكنها أيضًا مسؤولية. هي مرآة حين تريد أن تُظهر الواقع، وهي مطرقة حين تريد تغييره. والفرق يصنعه المخرج الواعي، السيناريست المتمرّس، والجمهور المتعطّش للمعرفة.
فهل يمكن للسينما العراقية أن تتحول إلى أداة حقيقية لصناعة الوعي؟
الجواب: نعم، بشرط أن تخرج من دائرة الانفعال إلى دائرة الفعل. أن تُموّل بحرية لا بإملاء. أن تُشاهد في ساحات بغداد، لا فقط في مهرجانات أوروبا. أن تتحدث بلهجة العراقي العادي، لا بلغة مثقفة معزولة، السينما ليست مجرد مرآة... إننا بحاجة إلى مرآة ذكية، ترى ما لا نراه، وتعلّمنا كيف ننظر لأنفسنا بشكلٍ أفضل.