علي محمد مجيد
تتجلّى إحدى أبرز المفارقات في الواقع العراقي المعاصر في الفجوة المتزايدة بين مؤسسات الدولة ومواطنيها. ففي وقت يُفترض أن تكون فيه الدولة هي الطرف المسؤول عن تنظيم حياة الناس وتوفير الخدمات الأساسية، يتقدّم المواطن إلى الواجهة بصفته "البديل غير الرسمي"، في مشهد يعكس غياباً متكرّراً، وأحياناً متعمّداً، للمسؤولية العامة.
من يتجول في أحياء العاصمة بغداد أو المدن الأخرى سيشاهد نماذج يومية لِما يمكن تسميته بـ"المواطنة القسرية". شباب يملؤون حفر الشوارع بالتراب والركام، عائلات تشترك في إصلاح كابل كهربائي سُرق أو تلف، سكان يزرعون الأشجار وينظّمون الأرصفة دون تخطيط، فقط لأنهم يئسوا من انتظار الجهات المعنية. هذه المظاهر، رغم ما تحمله من روح مبادرة وتعاون، تُعبّر عن خلل عميق: الدولة غير موجودة حيث يُفترض أن تكون.
لقد أصبحت العلاقة بين الدولة والمواطن علاقة مشوّهة. فمن جهة، تكتفي المؤسسات الرسمية بإلقاء اللوم على "قلة التخصيصات"، أو "تعقيدات الإجراءات"، أو "ضعف التنسيق بين الدوائر"، ومن جهة أخرى، يُطالب المواطن بتحمّل تبعات هذا الغياب، دون أي تفويض، ولا مقابل.
المشكلة هنا لا تتعلق فقط بالخدمات، بل بالنموذج الإداري والسياسي الذي يحكم العلاقة بين الطرفين. حينما تتحوّل الدولة إلى كيان بعيد، غير مرئي، يتعامل مع المواطنين عبر النشرات الرسمية وصفحات التواصل الاجتماعي، يفقد الناس ثقتهم بها تدريجياً. وحين يفقد المواطن إيمانه بفاعلية الدولة، لا يعود التراجع في البنى التحتية هو الكارثة الوحيدة، بل يبدأ ما هو أخطر: تآكل مفهوم المواطنة.
لقد ترسّخت لدى العراقيين قناعة مريرة: أن الاعتماد على الدولة يساوي الانتظار الطويل، وربما خيبة الأمل. وهذه القناعة تدفعهم للبحث عن حلول بديلة، حتى وإن كانت غير قانونية، أو غير مدروسة. فالتجاوز على أعمدة الكهرباء، ورمي الأنقاض عشوائيًا، والتشجير دون تنسيق، كلها أمثلة على ردود أفعال وليست مشروعات واعية. حين يغيب التخطيط، يحل الارتجال، وحين تغيب الرقابة، يزداد التشوّه.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى خطر مضاعف: حين يتعوّد الناس على غياب الدولة، يبدأون بملء الفراغ وفق منطق "كلٌّ يدبّر أمره". وفي مجتمع يعاني أصلاً من انقسامات وتفاوتات اقتصادية ومناطقية، يصبح هذا المنطق مدخلاً للفوضى، ولشرعنة التجاوز، وتكريس اللامساواة.
إذًا، ما المطلوب؟
لا نحتاج إلى خطط خمسية طويلة الأمد، ولا إلى خطب تحفيزية تُلقى في مؤتمرات مغلقة. ما نحتاجه هو حضور فعلي، وميداني، ومستمر لمؤسسات الدولة. نحتاج إلى استعادة ثقة المواطن عبر الاستجابة السريعة، لا التسويف الإداري. نحتاج إلى استبدال التنظير بالعمل، والشعارات بالقرارات الفعلية.
إن استعادة الدولة لدورها يبدأ من الشارع، لا من القوانين وحدها. يبدأ حين يشعر المواطن أن هناك من يراه، من يسمعه، من يتحمّل معه لا عليه. يبدأ حين يعود الموظف إلى موقعه كخادم للمصلحة العامة، لا كصاحب صلاحية متعالية.
ختامًا، يبقى المواطن العراقي هو العنصر الأقوى في هذه المعادلة. فقد أثبت، رغم كل التحديات، أنه قادر على التضحية، والمبادرة، والبناء. لكنه لا يستطيع أن يواصل لعب دور الدولة إلى الأبد. إن الدولة، إن أرادت أن تبقى، عليها أن تعود. لا بشعارات ولا بصور، بل بأفعال تُنجز، وخدمات تُقدّم، وثقة تُبنى من جديد.