راين غريفيث - سيفا غونيتسكي
فكرة إنشاء الدولة هي بمثابة سلعة نفيسة. فبعد طفرة إنشاء الدول إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يجر الاعتراف خلال الـ30 عاماً الماضية إلا بثلاث دول فقط – هي تيمور الشرقية، عام 2002، ومونتينيغرو (الجبل الأسود)، عام 2006، وجنوب السودان في الـ2011. وقد شهدت الفترة نفسها مساعي أخرى مماثلة لكن معظمها فشل بفعل مبدأ وحدة الأراضي الذي يولي الأولوية لفكرة الحدود الثابتة حتى في حالات فشل الدولة مما جعل الطريق نحو الاستقلال الشرعي والقانوني طويلة ويلفها الغموض.
على أن هذا المفهوم ازداد ترنحاً في الأعوام القليلة الماضية. ففي فبراير (شباط) 2022، اجتاحت روسيا أوكرانيا لمحوها عن الخريطة. الغزو الذي قوبل بداية بالذهول والرعب، جرى تطبيعه من قبل الولايات المتحدة مع عودة ترمب إلى الرئاسة، إذ دعا الرئيس الأميركي إلى السماح لموسكو بالاحتفاظ ببعض الأراضي (الأوكرانية) التي احتلتها. كذلك هدد ترمب من جهته بضم كندا (إلى الولايات المتحدة)، إضافة إلى غرينلاند وهي منطقة ذات حكم ذاتي تحت سيادة الدنمارك. ويبقى أن نرى مدى جدية الرئيس الأميركي في تهديداته تلك. غير أن النتيجة واضحة سلفاً: الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم، لم تعد ترى أن مبدأ احترام سيادة الأراضي يشكل عنصراً مهماً في النظام الدولي.
تعد هذه التطورات أخباراً جيدة وإيجابية بالنسبة إلى بعض دعاة الانفصال. فالحركات الاستقلالية لم تعد مضطرة إلى إثبات عدالة قضاياها وجوهريتها. وهي بدل ذلك، خصوصاً في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، تحتاج فقط إلى التحالف مع دول قوية. كذلك فإن تفضيل ترمب الدبلوماسية الشخصية في إطار أسلوبه السياسي قد يسهم أيضاً في مساعدة الانفصاليين، شريطة أن يكون لديهم زعماء يتمتعون بالكاريزما قادرون على تجاوز الدبلوماسية المؤسساتية المعقدة والبطيئة، والتودد مباشرة لشخص الرئيس الأميركي.
إلا أن رفض ترمب المعايير الدولية هذه يمثل أيضاً سيفاً ذا حدين. فتلك المعايير تقيد أفعال وممارسات دعاة الانفصال، كما تردع قمع الحكومات لهم. وهي أيضاً تمنح الانفصاليين وسيلة لعرض مطالبهم وتقديمها. إذ إن الحركات الاستقلالية في العادة تبرر وجودها عبر استخدام لغة حقوق الإنسان وحق تقرير المصير، التي يغفلها ترمب. فالرئيس الأميركي الحالي، على نقيض هذا الأمر، يفضل الحكام الأقوياء والقمعيين، على الحكام المبتدئين. وهو في السياق يقرب نفسه من الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، اللذين اعتمدا القتل وغيره من صور العنف، على التوالي، لقمع الانفصاليين الأكراد والشيشان. ترمب لا يهتم بأمر انفصاليين ضعفاء إن لم يتمكنوا من تقديم مكافآت فورية له.
تمثل حقبة ترمب للحركات الاستقلالية مزيجاً من الفرص والأخطار، على حد سواء. إذ إن القيود تقلصت، وكذلك الحماية. بالنسبة إلى الجماعات التي يراها ترمب مفيدة استراتيجياً (أو يفضلها لسبب من الأسباب)، سيغدو الطريق نحو إقامة الدولة أكثر سهولة وبساطة. أما للجماعات التي يعدها ترمب عديمة النفع والفائدة من الناحية الاستراتيجية، فإنه إما يبقي الأمور على ما هي بالنسبة إليها، أو يجعل حياتها أكثر صعوبة. وفي ظل نظام يعتمد فيه الاعتراف على النفوذ لا على القانون، قد تقدم مزيد من الجماعات على خوض محاولة جديدة للاستقلال. لكن بغياب المعايير المتسقة وعوامل الحماية المطلوبة ستبقى احتمالات النجاح ضئيلة، وسيغدو الفشل أكثر خطورة. وفي هذا السياق قد تحصل مزيد من المناطق الانفصالية على صورة من صور الاعتراف، إلا أن ذلك الاعتراف سيبقى واهياً وجزئياً – ومشروطاً بقدرة قادة تلك المناطق على الاستمرار في خدمة مصالح الدول الأكثر قوة. ومع تحرر الحكومات والجماعات الانفصالية من قيود العقوبات الدولية والضوابط المعيارية، وميلها إلى مزيد من الإقدام والبطش، فإن العالم بأسره سيشهد مزيداً من سفك الدماء.
سيادة للبيع
ترمب ليس أول رئيس أميركي حديث يتجاهل المعايير المتعلقة بسيادة أراضي الدول حين تغدو تلك المعايير عبئاً مزعجاً، بيد أن ترمب هو الرئيس الأول منذ عقود الذي يتجاهل فكرة المعايير المذكورة من أساسها. وهو قال في فبراير (شباط) الماضي إن "الأوكرانيين في يوم ما قد يصبحون روساً، أو قد لا يصبحون روساً". كما وصف مراراً الحدود بين الولايات المتحدة وكندا بأنها "خط رسم بطريقة مصطنعة".
هذه التصريحات تمثل أخباراً سيئة لشعبي أوكرانيا وكندا، اللذين قالا بوضوح تباعاً إنهما لا يريدان الانضمام إلى روسيا أو الولايات المتحدة. لكن إن ترسخ نهج سياسة الواقع الذي يتبناه ترمب، فإن المجموعات الانفصالية قد ترى أن اكتساب الشرعية سيكون أسهل بالنسبة إليها عبر التحالف مع الولايات المتحدة، أو مع قوة عظمى أخرى. والحركات الانفصالية الموجودة في مناطق ذات قيمة كبيرة، كالانفصاليين الأكراد في العراق الغني بالنفط، أو قادة مناطق صوماليلاند (التي باتت تتمتع بالاستقلال عملياً، وتحتل منطقة جغرافية مهمة في القرن الأفريقي)، قد تضمن الاعتراف والدعم الأميركيين إن نجحت في تحقيق تطلعات واشنطن. كذلك فإن الانفصاليين في غرينلاند، الساعين إلى الاستقلال عن الدنمارك، أو انفصاليي كاليدونيا الجديدة الساعين إلى الاستقلال عن فرنسا، قد يحشدون الدعم من الولايات المتحدة أو من غيرها من القوى العظمى إن تمكنوا من التعهد بتأمين طرق تجارية وقواعد عسكرية، أو بوضع مصادرهم بتصرف الأميركيين.
وفي عالم ترمب هذا قد يتمكن الانفصاليون من تحقيق النجاح – أو في الأقل اكتساب الزخم – عبر الدبلوماسية أيضاً. فالانفصاليون إجمالاً لا يتمتعون بوضعية مواتية في المفاوضات والمحادثات لأنهم منفصلون عن أنماط القنوات الرسمية التي تجري عادة الدبلوماسية عبرها. غير أن ترمب، وبإيقاع روتيني متكرر، يتجاهل الإجراءات المعيارية المتبعة، مفضلاً عليها الدبلوماسية الشخصية، مثل محادثاته مع الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون عام 2018. وهذا يعني أن الزعماء الانفصاليين الذين يتمتعون بالكاريزما الشخصية قد يتمكنون من كسب ود الرئيس الأميركي عبر مناشدته بطريقة مباشرة.
قضايا الانفصال ستتحول إلى صفقات جيوسياسية
إلا أن عالم ترمب الذي نحيا فيه اليوم لن يضمن للانفصاليين مزيداً من النجاحات. فالرئيس خفف القيود المفروضة على الحركات والمجموعات الاستقلالية، لكن ظاهرة تفضيله الرجال الأقوياء وصيغ السيطرة المركزية تخلق عوائق وقيوداً جديدة أمام دعاة الانفصال. فترمب يميل إلى تفضيل الزعماء الوطنيين العدوانيين الذين يفرضون السلطة بالقوة، لا المتمردين المبتدئين، أو الذين يشكلون تحديات محلية للدولة. وهذا يجعله أكثر ميلاً لدعم الأنظمة القائمة، بدلاً من الصيغ الانفصالية الجزئية، ما دامت تلك الأنظمة تؤيده.
إذ مثلاً في هذا المنحى، خلال رئاسة ترمب الأولى، أصدر زعيم حركة بيافرا الانفصالية في نيجيريا، ننامدي كانو، مناشدة شخصية للرئيس الأميركي، مشيراً إلى تأييد ترمب "بريكست" كدليل على إيمانه بحق تقرير المصير. لكن مع ذلك لا يوجد ما يشير إلى استجابة ترمب لمناشدات كانو. والحكومة الأميركية، كما فعلت عقوداً من الزمن، تعاملت مع حركة بيافرا، التي لا تشكل قيمة استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة، على أنها مسألة نيجيرية داخلية.
وبيافرا ليست حالاً فريدة في هذا السياق. إذ على رغم الإشارات الخطابية لمسألة السيادة، لم تظهر إدارة ترمب اهتماماً يذكر في دعم معظم الحركات الاستقلالية، كحركة الأكراد في أنحاء الشرق الأوسط، أو حركة الكتالونيين في إسبانيا. وترمب بهذا الإطار، في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، أمر بانسحاب القوات الأميركية من شمال سوريا، متخلياً عملياً عن "قوات سوريا الديمقراطية" التي يتزعمها الأكراد، ومتيحاً لتركيا إطلاق عملية عسكرية ضدهم. تلك الخطوة أثارت انتقادات من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، كونها مثلت خيانة مزعزعة لشريك موثوق، وقد وافق ترمب في النهاية على إبقاء قوات أميركية في سوريا (وهي ما زالت هناك)، بيد أن المسألة مع ذلك أظهرت استعداد ترمب لإيلاء الأولوية لسياسات القوة الإقليمية، وذلك على حساب انفصاليين حلفاء وأصدقاء.
بالنسبة إلى الحركات المطالبة بالاستقلال، تعني القواعد الجديدة للانفصال مستقبلاً غامضاً وأكثر تقلباً. إذا كان النجاح مرهوناً بالتوقيت والكاريزما والفائدة الاستراتيجية، فقد تجد بعض المناطق الانفصالية طريقاً مختصراً للاعتراف بها، فيما تعاني مناطق أخرى. ومع ذلك سيتعين على جميعها أن تناور في عالم حيث السيادة لا تكتسب بجدارة، بل تعرض للبيع في مزاد يائس.