ايريك جاكسون
تعمل التقنيات الناشئة على إحداث ثورة في طبيعة المعارك لا تزال الولايات المتحدة غير مستعدة لحروب المستقبل. فقواتها ليست مجهزة بالكامل للعمل في بيئات نادراً ما تتمتع فيها بميزة المفاجأة، وتفتقر طائراتها النفاثة وسفنها ودباباتها إلى الدفاعات اللازمة ضد هجمات الطائرات المسيرة
في ساحات القتال في أوكرانيا، يتكشف مستقبل الحرب بسرعة. فالسماء تمتلئ بآلاف الطائرات المسيرة "الدرون". والواقع أن هذه الطائرات ومشغليها يستخدمون أنظمة الذكاء الاصطناعي من أجل تجنب العقبات وتحديد الأهداف المحتملة. فنماذج الذكاء الاصطناعي تساعد أوكرانيا في التنبؤ بالمكان الذي يجب أن تستهدفه، وبفضلها، يدمر الجنود الأوكرانيون الدبابات ويسقطون الطائرات بفعالية ساحقة. وتجد الوحدات الروسية نفسها تحت المراقبة المستمرة، ومثلما هي الحال في أوكرانيا، فإن خطوط اتصالاتها معرضة للتعطيل من العدو أيضاً. ومع استمرار الصراع، تتسابق الدولتان لتطوير تقنيات متطورة بصورة متزايدة لمواجهة الهجمات المستمرة واختراق دفاعات كل منهما.
إن الحرب في أوكرانيا ليست سوى واحدة من عديد من الصراعات إذ تعمل التقنيات الناشئة على إحداث ثورة في طبيعة الحروب. ففي ميانمار والسودان، يستخدم المتمردون والحكومة الخوارزميات ومركبات ذات تحكم آلي أثناء القتال. وفي عام 2020، وجهت طائرة ذاتية التشغيل تركية الصنع أرسلتها قوات مدعومة من الحكومة الليبية ضربة إلى مقاتلين منسحبين من دون تدخل بشري، مما قد يمثل أول هجوم من هذا القبيل. في العام نفسه، استخدم الجيش الأذري طائرات مسيرة تركية وإسرائيلية الصنع، إلى جانب ذخائر معلقة (متفجرات مصممة للتحليق فوق الأهداف)، للاستيلاء على منطقة ناغورنو قره باغ المتنازع عليها. وفي غزة، نشرت إسرائيل آلاف الطائرات المسيرة المدمجة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، من أجل مساعدة القوات الإسرائيلية في التنقل عبر التضاريس الحضرية المعقدة.
وفي حين كانت الحرب دائماً محركاً للابتكار التكنولوجي، فإن الوتيرة الحالية لهذه التطورات سريعة بصورة استثنائية وجاهزة لإحداث تأثير بعيد المدى. ومن المرجح أن تصبح الصراعات المستقبلية أقل ارتباطاً بمن يستطيع حشد أكبر عدد من القوات أو نشر الأسلحة التقليدية الأكثر تقدماً، وأكثر ارتباطاً بمن يستطيع الاستفادة من أنظمة الأسلحة المستقلة بصورة متزايدة والخوارزميات المتطورة.
ولكن من المؤسف أن الولايات المتحدة لا تزال غير مستعدة لهذا المستقبل. فقواتها ليست مجهزة بالكامل للعمل في بيئات نادراً ما تتمتع فيها بميزة المفاجأة، وتفتقر طائراتها النفاثة وسفنها ودباباتها إلى الدفاعات اللازمة ضد هجمات الطائرات المسيرة. علاوة على ذلك، لم يبدأ الجيش الأميركي بعد بدمج الذكاء الاصطناعي في عملياته. والمبادرات التي اتخذها البنتاغون من أجل تصحيح هذه الإخفاقات غير كافية، وجهوده الحالية تتحرك ببطء شديد. في المقابل، نشر الجيش الروسي عدداً كبيراً من الطائرات المسيرة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في أوكرانيا. وفي أبريل (نيسان)، أعلنت الصين عن أكبر عملية إعادة هيكلة عسكرية لها منذ ما يقارب عقد من الزمان، مع التركيز على بناء قوات تعتمد على التكنولوجيا.
وللحفاظ على مكانتها كقوة عالمية رائدة، يتعين على الولايات المتحدة إجراء تغييرات سريعة وحاسمة. وسوف يتطلب هذا إصلاحاً شاملاً لهيكل القوات المسلحة، بما في ذلك التغييرات في التكتيكات وتنمية القيادة. ويتعين على الجيش اتباع طرق مبتكرة في اقتناء المعدات وشراء أنواع جديدة من التجهيزات وتدريب الجنود بصورة أفضل على تشغيل الطائرات المسيرة واستخدام الذكاء الاصطناعي.
ويذكر أن فكرة إجراء مثل هذا الإصلاح الشامل للنظام قد لا تستهوي صناع السياسة الأميركيين الذين اعتادوا على إدارة أقوى جهاز دفاعي في العالم. لكن الروبوتات والذكاء الاصطناعي أصبحتا جزءاً دائماً من المشهد. وإذا فشلت الولايات المتحدة في قيادة هذه الثورة، فقد تحاول الجهات المعادية المزودة بهذه التطورات بصورة متزايدة شن هجمات على الولايات المتحدة، وقد تتكلل محاولاتهم بالنجاح عندما يحدث ذلك. وحتى إذا تمكنت واشنطن من التغلب على هذه التهديدات، فستجد نفسها محاطة بصورة متزايدة بأنظمة عسكرية مصممة لدعم الأنظمة الاستبدادية بشكل يتجاهل القيم الليبرالية. إذاً، لكي تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على ميزة عسكرية حاسمة، فعليها إجراء تغيير كبير في قواتها المسلحة، وضمان استخدام الروبوتات والذكاء الاصطناعي بطريقة أخلاقية.
إما التغيير أو الهلاك
إن الطبيعة الأساسية للحرب لا تتغير، فهي تظل صراعاً لفرض الإرادة السياسية لجماعة على أخرى من خلال العنف المنظم. وتشن المعارك وسط حالة من عدم اليقين، إذ تتنقل الجيوش بين ديناميكيات متغيرة باستمرار داخل صفوفها، وبينها وبين حكوماتها، وبينها وبين الناس العاديين. والخوف وسفك الدماء والخسارة التي يتحملها الجنود هي أمور ثابتة، ولا تتأثر حتى بظهور التكنولوجيات المتقدمة مثل الروبوتات.
ومع ذلك، فإن طبيعة الحرب، الأساليب والمواقع والتوقيت وأدوات القتال، يمكن أن تتطور. ويمكن أن تتغير نتيجة للسياسة والديموغرافيا والاقتصاد. ومع ذلك، قليلة هي العوامل القادرة على إحداث تغيير بقدر التطور التكنولوجي. فقد أسهم اختراع السروج والحدوات، على سبيل المثال، في إنشاء سلاح الفرسان في القرن التاسع قبل الميلاد، مما سمح للجيوش بالقتال في أنواع جديدة من التضاريس خارج المناطق المسطحة المناسبة للعربات. وكان ظهور القوس الطويل، القادر على إطلاق السهام لمسافات بعيدة، سبباً في تمكين المدافعين من اختراق الدروع الثقيلة وتدمير الجيوش المتقدمة من بعيد، ثم أدى اختراع البارود في القرن التاسع الميلادي إلى استخدام المتفجرات والأسلحة النارية، مما حث المدافعين على بناء تحصينات أقوى والتركيز بصورة أكبر على إنتاج الأسلحة. وقد ازداد تأثير التكنولوجيا وضوحاً مع الثورة الصناعية، التي أدت إلى إنشاء المدافع الرشاشة والسفن البخارية وأجهزة الراديو، وفي نهاية المطاف، أسهمت أيضاً في ظهور المركبات الآلية، والمدرعة، والطائرات، والصواريخ.
يعتمد النجاح العسكري غالباً على مدى فعالية القوات في التكيف مع هذه التطورات التكنولوجية ودمجها. ولنأخذ الثورة الأميركية على سبيل المثال: استخدم الجيش القاري البنادق فأطلق وابلاً من الرصاص على البريطانيين ثم اندفع إلى الأمام بحراب ثابتة. وكان هذا التكتيك ناجحاً لأن القوات القارية كانت قادرة على عبور المسافات الفاصلة بينها وبين مواقع العدو الدفاعية قبل أن يعيد البريطانيون تلقيم أسلحتهم. ولكن بحلول الحرب الأهلية، استبدلت بندقية المسكيت القديمة [بندقية ذات سبطانة ملساء تلقم من الفوهة] بالبندقية ذات الماسورة المخروطية [أي التي تتضمن أخاديد حلزونية] الأكثر دقة والأسرع تلقيماً. ونتيجة لهذا، تمكنت الجيوش المدافعة من إبادة فرقة المشاة المتقدمة. وعدل الجنرالات على الجانبين تكتيكاتهم، على سبيل المثال، باستخدام القناصة والتحصينات الدفاعية مثل الخنادق. ومهدت قراراتهم الطريق لحرب الخنادق في الحرب العالمية الأولى.
لن تصمم شركات الدفاع التقليدية الجيل التالي من الطائرات مسيرة الصغيرة المنخفضة الكلفة
واستطراداً، أثبت التكيف التكنولوجي أهميته في الحرب العالمية الثانية. في الفترة التي سبقت ذلك الصراع، كانت كل الدول المتقدمة قادرة على الوصول إلى التقنيات الجديدة آنذاك من المركبات الآلية والدبابات المدرعة والطائرات وأجهزة الراديو. لكن الجيش الألماني كان رائداً ومتفوقاً عندما تعلق الأمر بالجمع بين هذه العناصر. وتضمنت عقيدته الحربية الجديدة، المعروفة عادة باسم "بليتزكريغ" (أو الحرب الخاطفة)، قصفاً جوياً لتعطيل الاتصالات وخطوط الإمداد، تلته هجمات بالمركبات المدرعة والمشاة التي اخترقت خطوط الحلفاء ثم تجاوزتها إلى ما هو أبعد من ذلك. ونتيجة لهذا، تمكن الألمان من اجتياح كل أوروبا تقريباً في غضون 18 شهراً. ولكن أحبطوا ومنعوا من التقدم في ستالينغراد، بسبب الجيش السوفياتي الذي كان على استعداد لتحمل خسائر فادحة.
ولكن في مواجهة هذا التحدي، كان الحلفاء مضطرين إلى تطوير تكتيكات وتشكيلات مماثلة. وكان عليهم أن يظهروا ما أطلق عليه أحد كتاب المقال هذا (إيريك شميدت) "قوة الابتكار"، أي القدرة على اختراع التقنيات الجديدة وتكييفها وتبنيها قبل المنافسين. وفي نهاية المطاف نجحوا في ميكنة قواتهم، وتطوير أساليب اتصالاتهم، واستخدام قوة جوية كبيرة، وفي حالة الأميركيين، بناء واستخدام أول قنابل نووية في العالم. وقد مكنهم هذا من هزيمة قوى المحور على جبهات متعددة في وقت واحد.
لقد كانت جهود الحلفاء مذهلة. ومع ذلك، كانوا على وشك التعرض للهزيمة. ولو تمكنت ألمانيا من إدارة قدرتها الصناعية بكفاءة أكبر، أو اتخذت خيارات استراتيجية أفضل، أو طورت سلاحاً نووياً قبل الولايات المتحدة، للعب تفوق برلين الأولي في مجال الابتكار التكنولوجي دوراً حاسماً. قد يبدو لنا الآن أن نتيجة الحرب العالمية الثانية كانت حتمية، ولكن كما قال دوق ويلينغتون عن نتيجة معركة واترلو قبل أكثر من قرن من الزمان، كان هناك هامش صغير بين النجاح والفشل لم تكن النتيجة مؤكدة وقد حسمت بفارق ضئيل.