علي وجيه
قيلَ لنا: سيكونُ فوزي كريم حاضراً في المهرجان.
هذهِ الجملةُ كانت كفيلةً بأن ننتبهَ، والضميرُ المتحدث في "نا"، قد لا يُشيرُ إلى مجموعة الشعراء الشباب بأكملها، لكنني بالأقل أتحدثُ عني.
كان فوزي، آنذاك، الشاعر الذي يُطلّ علينا هامساً من كلّ مكان، فلَهُ عمودٌ أسبوعيّ في ثقافية "المدى"، تحت عنوان "البرج العاجي"، وكلّما ذهبنا بدنانيرنا النحيلة إلى الدار، كنّا نرى ترجمةً هنا، أو ديوانَ شعر جديداً، أو كتاباً سرديّاً، فهو حاضرٌ، مُثقّفاً غريباً على فمي، فهو قليلُ العصارة القلبيّة، ذهنيّ، حتى إن استعادَ ذاكرةً ما غلّفها بالوعي، يتحدثُ عن الموسيقى بشكلٍ لم نألفه، وعن التشكيل كذلك، وكلّما دخلتُ لموقع "اللحظة الشعرية" آنذاك، كنتُ أشعرُ بأنني متطفّلٌ بطريقةٍ ما، فأنا لا أكتبُ بطريقة فوزي، ووجودُهُ في مكتبتي هو وجود قطعة مهمّة من الشعر والثقافة العراقيّة، لكنني أمرّ به مُرغَما كما لو كان دواءً يرفضُهُ الطفل، فـ"هذا الشاعرُ باردٌ بشكلٍ عجيب"، هكذا أحدّثُ نفسي وأنا أمضي في أعماله الشِعرية الكاملة، ذات المجلّدين. كانتْ شوارعُ بغداد آنذاك لعبةً عشوائيّة مع التفجيرات، ونعود إلى منازلنا مُنهكَيْن قلَقاً مُحتَفين بحيواتِنا النحيلة، لنكتبَ قصائدَ عن الجثث المتفحّمة، والموت المُفاجِئ، والموتى مجهوليْ الهويّة، فمَن هو فوزي كريم الذي يكتبُ عن انهدامِ حائطٍ طينيّ في النهر، أو عن الماء بوصفِهِ "البهاء المستقرّ في المزهرية".
كنّا مُراهِقين، مليئين بالإبر والتصريحات الخطابيّة الغاضبة المُضحِكة، ورغم أن مجموعتَنا آنذاك هي الوحيدة من الأجيال الشعرية العراقية التي لم تمارس قتل الأب، ولم تكن معنيّة بالتأسيس النظريّ لما نكتبُهُ شعراً، لكننا لم نكن نختلف عن الأسلاف الغاضبين، الستّينيين الذين يعلنون موت الرواد، السبعينيين الذين يحاولون تهشيم الستّينيين، الثمانينيين وهم يطلقون النار على الجميع، ثمّ التسعينيين الذين أزالوا الشعر بأكمله بقولهم "اللغة أداة توصيل".
سنرى نقيضَنا، الكبير الذي لا يُشبِهنا، الذي يعرفُ أشياء كثيرة عن أشياء كثيرة، شخصياً: تخوّفتُ بطريقةٍ ما أن أهديهِ كتبي، وحين أستعيدُ تلك اللحظة، أقول لنفسي "أحسنت صنعاً".
كان فوزي كريم يحضرُ في الذهن بوصفِه الشاعر الذي لم يكن ضمن "الروح الحيّة" ولا "الموجة الصاخبة"، ينقسمُ الشعراءُ في عهدِهِ إلى شيوعيين وبعثيين، يسارٍ ويمين، فيدندنُ وحدَهُ في بار الاتحاد، ويكتبُ قصيدتَهُ غير المعنيّة بغيره، لا يُثيرُهُ منجلٌ أمميّ، ولا أمّة عربيّة من المحيط إلى الخليج، وبطريقةٍ ما كانت هذه نقطةَ التقائنا الأولى، أعني بينه وبين جيلنا الذي شاهدَ انهيار البعث بعد ٢٠٠٣، ثمّ عدم اقتناعه بمَن جاءوا بعده.
همسَ بأذني علي محمود خضيّر:
- سنحاور فوزي كريم..
- هل رضي؟
- نعم، وكان سعيداً بالدعوة..
- مَن سيحاوره؟
- أنا، وميثم الحربي، صفاء خلف، وأنت، وسيصوّر الحوار أحمد محمود، حضّر أسئلتك.
وهكذا، دلفنا لغرفةِ فوزي ذات الإضاءة الخافتة، بصوتِهِ الخافت، كانت جناحاً وليست غرفة مُفردة، تحلّقنا حوله، وأمسكَ علي جهاز التسجيل، سألناه مجموعة أسئلة امتدّت هي وأجوبتها لساعتين.
لم أكن معنيّاً بالحوار بقدر أن أكون معنيّاً بمراقبتِهِ، الوجه المعروق، شحيح الملامح، وكأنه مرحلةٌ انتقاليّة بين جمجمة وبشر بخدّين متورّدين، عرفتُ فيما بعد أن هذا النحول والشحوب سببُهُ مرضٌ في القلب. ثمّ انتبهتُ إلى شيبه، كان شيباً غريباً، ولا يُشبه مهمّة الشيب الفعليّة: الوقار. وإنما كان يُشبِهُ نباتاً غريباً على بركة متعبة، أو بقايا ضربات أكريليك غير محسوبة على وجهِهِ، كان يُشير لكلّ شيء سوى أنّ الذي أمامنا كبير السن، وإنما هو رجلٌ مُنهَك، ومُتعب. وكان يُكملُ المشهد صوته الخافت العجيب، في أشدّ المدن خطابيّة، وبين شعراء شباب كانوا يحبّون التكلّم بصخب، وقوّة، وتوسّع في الحديث.
كنتُ أتخيّلُ كلامَهُ ودقّته، يصمتُ بين الجملةِ والجملة ليضعَ فارزةً في الهواء، ثمّ يُكملُ فنعرف أنّ السطر ابتدأ، كان يتحدثُ شفاهياً وتحريرياً في الوقت ذاته، ويُضفي هدوءاً عجيباً على الغرفة، وعلى الجالسين.
في تلك اللحظة، كان النقاش عن الذهن والقلب والقصيدة، تحدّث عن اللحظة الواعية التي تُنتجُ النص، كانت صدمة خفيفة: أين إذن الإلهام الشعري؟ والشياطين العربيّة؟ وتغرّب امرئ القيس وأنا المتنبي وغضبة الجواهري العجيبة؟ ما تحدّث عنه آنذاك، وجدتُهُ موسّعاً في واحد من كتبه الأخيرة قبل وفاته "القلب المفكّر – القصيدةُ تغنّي ولكنّها تفكّرُ أيضاً" – دار المتوسط ٢٠١٨.
هدوءُ فوزي، الذي جعلني أُعيدُ قراءته بهدوءٍ مرّة ثانية، ومُجدّداً، أمسكَ بورق الزجاج مارّاً على ما كان ناتئاً منّي، وحشيّاً، صارخاً، مرّ بهدوء وشذّب كلّ تلك الهرمونات والصراخات المتعددة على شاعرٍ شاب عربيّ طبيعي، أعني طبيعياً قياساً بما يُكتبُ عربياً، لا بما يكونه الشعر بوصفِهِ شعراً.
محطّات التهدئة التي شذّبت الخطاب الشعريّ، أتحدثُ عن نفسي بالأقل، كان فوزي، بشكلٍ دقيق، وصلاح نيازي بسيرته الذاتيّة "غصنٌ مطعّم بشجرة غريبة"، ثم تنويعات أخرى للغذّامي، لكن الرفّ الذي يُشبه رفّاً من مسكّنات الصداع كان فوزي، الشاعر المُنهَكُ الهامس، الذي قال لنا بطريقةٍ ما "الشعرُ ليس ابن اللحظة"، فأبعدنا قصائدنا عمّا نفكّرُ به سياسياً، وعن لحظتِنا.
في "تهافت الستّينيين" و"ثياب الامبراطور" و"يوميّات نهاية الكابوس"، وفيما كتبَهُ شعراً وترجمَهُ، وليس انتهاءً بكتابيه العجيبين "شاعر المتاهة وشاعرُ الراية" و"القلب المفكّر"، كان فوزي في كلّ كتابٍ يُعيدُ نظمنا، نظمي بالأقل، وفي أن أُبعدَ النصّ عن وحل اليوميّ، أن يكون الغرفةَ العصيّة على الفتح كما في شروط جنّي "ألف ليلة وليلة"، وأن يكون الألمُ ناعماً، الإشارة له لا وصفه، الالتفات إلى الروح الفعليّة للنصّ لا حضوره الإعلامي.
كلّ صناديق فاكهة الشعر العراقيّ، تضطرّ للمرور عليها مع سكّين صغيرة، تقشّرُ سعدي يوسف ممّا انزلقَ إليه، قديماً وحديثاً من دفقة سياسيّة مسيئة، تضطرّ لفرز نصف البياتي ورميه، كذا الحال مع بعض غنائيات رشدي العامل، وبكائيّات يوسف الصائغ، لكنك حينَ تصل صندوق فوزي، تجدهُ فاكهةً صغيرة، غير لذيذة، لكنها صحّية، ولا تشعرُ بطعمِها إلاّ بعد مدّة من الزمن، حين تدرّبُ معدتك على الانتباه للنبر الخافت للعالم، لا لصراخ مكائنه الوحشيّة!
الحوار المطوّل، فقده علي محمود خضيّر، اختفى مع هاتفٍ ما، لم تبق سوى مجموعة صور قليلة، لكنّ الحوار الفعليّ هو ما تركه فوزي فينا، فيّ تحديداً، المسّ السحريّ في كلّ نأمة وجملة، حضوره الكامل الذي كان يقول لي، وما زال "كن صاخباً في كلّ شيء، سوى الشعر، تلك المنطقة الهادئة اتركها بعيدةً عن الوحل".
كنتُ أفكّرُ بفوزي، بعدها بأعوام، وأنا أكتب في "الصوائت والصوامت" – ٢٠١٨، وقبل وفاته:
[تعاليم]
أعمقُ التعاليمِ، تلكَ التي لم يقلْها المعلّمون.
التعاليمُ التي تفلتُ منهمُ، مثلَ حمامةٍ في الظلام
وهم يفكّرون بتعاليمَ أخرى، ينطقونها ويعلّمونها.
ما يتساقطُ منهم، بفلتةِ لسانٍ، أو إيماءة وجه
سيلتقطُهُ المُريدُ مثل الديك، سريعاً، ويعودُ لجلستِهِ
ولا يقولُ أبداً.
لكنها، تلكَ التعاليمُ الخفيّةُ، ستستقرُّ عميقاً
بروحِ التلميذِ المُبتسم، الذي يتمتمُ اسمَ المعلّمِ في نومِهِ وصحوِهِ
وما سينتبه لها يوماً إلاّ حين يكونُ هو المعلّم
حينها ستفلتُ منه التعاليمُ الأخرى، مثل حمامةٍ في الظلام، للمُريد الجديد.