بغداد _ العالم
في خضم تحولات إقليمية متسارعة، ومع اقتراب نهاية مهمة التحالف الدولي ضد داعش، يواجه العراق تحدياً جوهرياً: كيف يوازن بين حاجته للاستقرار الداخلي، وتحقيق تطلعاته في مجال الطاقة، وبين إعادة صياغة علاقته مع الولايات المتحدة بطريقة تضمن السيادة وتُبقي الدعم الدولي حاضراً.
تقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى يسلّط الضوء على هذا التقاطع الحرج، ويرسم خارطة طريق لمستقبل الشراكة العراقية-الأمريكية، مرتكزة على محورين متكاملين: الطاقة والأمن. لا باعتبارهما ملفين منفصلين، بل كعنصرين مترابطين تتوقف عليهما قدرة العراق على النهوض الاقتصادي ومتانة موقعه الجيوسياسي.
الغاز بوابة التمكين الاقتصادي
يرى التقرير أن الاعتماد المستمر على الغاز الإيراني لا يمكن أن يكون استراتيجية دائمة، خاصة في ظل هشاشة العلاقة بين طهران وواشنطن، والتأثير المباشر لأي تصعيد عسكري – مثل الضربات الإسرائيلية على منشآت الغاز الإيرانية – على أمن الطاقة العراقي. لذا، يُطرح تعزيز التعاون مع واشنطن في تطوير قطاع الغاز كفرصة استراتيجية، لا فقط للخروج من التبعية، بل لبناء صناعة طاقوية وطنية متقدمة. النموذج المقترح هو التجربة السعودية في تقليص حرق الغاز وتحويله إلى عصب للصناعة البتروكيميائية. ولدى العراق مؤهلات كافية، منها حقول غير مستغلة كالـعكاز، وشركات أميركية مشاركة يمكن البناء على خبرتها. وتذهب التوصيات أبعد من الإنتاج المحلي، لتقترح البنية التحتية العائمة لاستيراد الغاز الطبيعي كحل مؤقت لدعم منظومة الطاقة، إلى حين نضوج مشاريع الغاز الوطنية. الأمن أولاً.. قبل الاستثمار:لكن تقرير المعهد لا يتعامل مع ملف الطاقة بمعزل عن البيئة الأمنية. فالتعاون الاقتصادي ـ وفق رؤية واشنطن ـ لا يزدهر إلا في ظل استقرار مستدام. وهذا يتطلب، من وجهة نظر المعهد، استمرار المواجهة المزدوجة: أولاً مع بقايا داعش، وثانياً مع الفصائل المسلحة التي تمتلك قدرة على زعزعة الاستقرار الداخلي أو التأثير على قرارات الحكومة المركزية. من هنا، يُعاد طرح فكرة اتفاقية وضع القوات (SOFA) أو ما يشبهها كإطار قانوني واضح يُمكّن واشنطن من البقاء العسكري المحدود، لا لمجرد الاستمرار الرمزي، بل كإشارة ثقة للمستثمرين بأن البلاد لا تعيش على حافة الانهيار الأمني، وأن شراكتها مع الغرب راسخة وغير خاضعة للضغوط.
موازنة دقيقة بين النفوذ والسيادة
التقرير لا يخفي أن التعاون الأميركي في الطاقة والأمن يخدم أيضًا أهدافًا استراتيجية لواشنطن، سواء في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني، أو في تأمين مصالحها في سوق الطاقة العالمي. لكن السؤال يبقى: هل بإمكان بغداد أن تُعيد صياغة علاقتها مع واشنطن بطريقة تُراعي مصالحها دون الوقوع في فخ الانحياز الكامل أو التبعية السياسية؟
هذا ما يتطلب من بغداد استقلالية قرار حقيقية، لا بالقطيعة، بل بإرساء قواعد جديدة للتعاون، يكون فيها الاقتصاد محركًا رئيسًا، والسلاح خارج الحسابات، والتفاهمات مبنية على التوازن لا على الإملاءات.
نحو شراكة استراتيجية بنَفَس وطني
إذا أراد العراق فعلاً أن يتحوّل إلى دولة طاقة إقليمية، ويصبح نقطة ارتكاز في مشاريع الربط الاقتصادي الآسيوي-الأوروبي، فعليه أن يُعيد بناء بيئته القانونية، والأمنية، والاستثمارية. شراكة الطاقة مع واشنطن ليست وصفة جاهزة، بل اختبارٌ لقدرة الدولة العراقية على فرض الاستقرار، وإنهاء دور الفصائل غير المنضبطة، وتعزيز حضورها كفاعل سيادي في المشهد الإقليمي.
وفي ظل التوتر المستمر في الشرق الأوسط، فإن العراق إذا ما أحسن قراءة المعادلة، يمكنه أن يكون جسرًا للاستقرار لا ساحة للصراع.