تمهيد
لا يتحقق البناء المتين للدولة ما لم يقترن بإصلاح اقتصادي شامل، يخرج عن كونه مجرد أداة لإدارة الموارد، ليصبح فعلاً حضارياً يصدر عن منظومة قيمية رفيعة. فكما أن الدولة الحضارية الحديثة لا تُبنى على القوة وحدها أو على الآليات الإدارية وحدها، فإن اقتصادها لا يُصلح بالاجراءات الفنية الباردة أو الحسابات الربحية المجردة، بل بمنظور شمولي يرى الاقتصاد بوصفه أحد أعمدة المشروع الحضاري المتكامل.
أولاً: الاقتصاد جزء من المركب الحضاري
إن "المركب الحضاري"، كما نطرحه، يتكون من خمسة عناصر مترابطة هي: الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، والعمل، ولا تقوم الدولة إلا بتحقيق التوازن والتفاعل الإيجابي بين هذه العناصر ضمن إطار منظومة القيم العليا التي تشكل المرجعية الأخلاقية والثقافية لسلوك الدولة والمجتمع.
في هذا السياق، يشكل الاقتصاد مجالًا حيويًا تتجلى فيه هذه العناصر جميعًا:
- الإنسان منتجًا ومستهلكًا ومخططًا. - الأرض مصدرًا للثروات والموارد. - الزمن وعاءً للتنمية والتخطيط. - العلم وسيلة للإدارة الرشيدة. - العمل ثمرة تُقاس بجودته وجدواه وقيمته.
ثانياً: لا إصلاح اقتصادي بدون إصلاح قيمي: إن الاقتصادات التي تعزل نفسها عن القيم تتعرض، ولو بعد حين، للانهيار. فقد ثبت تاريخياً أن النمو الاقتصادي القائم على الفساد أو الاحتكار أو الظلم الاجتماعي لا يدوم. بالمقابل، فإن الإصلاح الاقتصادي القيمي يحقق أهدافاً ثلاثية الأبعاد:
1. العدالة الاجتماعية: عبر توزيع الثروة بشكل متوازن يراعي الحاجات والجهد.
2. الفعالية الإنتاجية: من خلال تنمية المهارات وتحفيز الكفاءات وفق قيم الإتقان والنزاهة.
3. الاستدامة: عبر حماية الموارد والبيئة واحترام الأجيال القادمة.
ثالثاً: الدولة الحضارية الحديثة نموذجًا
تتبنى الدولة الحضارية الحديثة منظورًا وظيفيًا وأخلاقيًا للإصلاح الاقتصادي، فهي:
- ترى في المواطن شريكًا لا مستهلكًا فقط وتسعى إلى إشراكه في عملية التخطيط والتنمية.
- تعتمد الشفافية في الموارد والموازنات، وتحاسب الفساد دون انتقائية.
- تستخدم العلم والتكنولوجيا لتطوير الاقتصاد، لكنها تُخضع هذه الأدوات لقيم العدالة والمصلحة العامة.
- تراعي الزمن كمجال للتراكم والتخطيط فتتجاوز السياسات المؤقتة إلى المشاريع الاستراتيجية طويلة الأمد.
رابعاً: لماذا لا يتحقق البناء المتين بدون هذا الإصلاح؟
- لأن غياب الإصلاح الاقتصادي يجعل الدولة عرضة للتبعية المالية والفساد المؤسسي.
- لأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تهدم النسيج الاجتماعي وتخلق بيئة للتمرد والعنف.
- لأن الاقتصاد الهش لا يستطيع أن يدعم الاستقرار السياسي أو السيادة الوطنية.
- لأن القيم هي التي تمنح الاقتصاد معناه الحضاري، وتحوله من مجرد آلية ربح إلى وسيلة لبناء الإنسان ورفع كرامته.
خاتمة: إن الدولة التي تسعى إلى بناء نفسها على أسس حضارية لا يمكنها أن تهمل الإصلاح الاقتصادي. لكن هذا الإصلاح لن يكون حقيقياً ما لم يستند إلى القيم، ويراعي عناصر المركب الحضاري. وهكذا، فإن الإصلاح الاقتصادي ضمن رؤية حضارية متكاملة هو الخطوة الأولى نحو دولة عادلة، قوية، منتجة، وقادرة على الاستمرار.