بغداد - العالم
حين تتجول في أزقة بغداد القديمة، لا بدّ أن تتوقف عيناك أمام تلك النوافذ الخشبية البارزة، المنحوتة بإتقان، كأنها وشمٌ على وجه الزمن. إنها الشناشيل، إحدى أجمل ما أهداه المعمار العراقي للهوية البصرية، وأحد أعمق الرموز التي تسكن الذاكرة الشعبية البغدادية.
الشناشيل ليست مجرد شرفات تطل على الأزقة، بل هي نوافذ الروح، تطل منها الحياة، وتختبئ فيها الحكايات. صُممت ببراعة لتُدخل النور وتُخفي من بالداخل، تحاكي الخصوصية الشرقية، وتمنح البيت دفئًا وجمالًا لا تملكه النوافذ الحديثة مهما بلغت رفاهيتها.
في أحياء مثل البتاوين، الفضل، وأبو نواس، بل وحتى في جانب الكرخ من المدينة، كانت الشناشيل هي العلامة الفارقة للبيت البغدادي. تتكون من خشب "الساج" المستورد، يُنحت يدويًا بزخارف هندسية ونباتية دقيقة. الزجاج الملون، غالبًا الأخضر والأزرق، يرشح الضوء إلى الداخل كحلمٍ هادئ، ويمنح الليل نكهة أليفة حين يمر القمر من خلفه.
الشناشيل كانت أيضًا لغة اجتماعية. من خلالها تتواصل النساء مع الخارج دون أن يُرَين، يرين المارّة ويصغين لصوت الباعة، ويعشن في قلب المدينة دون أن يتنازلن عن حميمية البيت. ومن خلالها، كانت تنشأ أحيانًا قصص حب صامتة، تبدأ بنظرة وتكبر خلف تلك القضبان الخشبية الدقيقة.
لكن هذا الجمال، مثل أشياء كثيرة في العراق، يتآكل بصمت. الإهمال، التمدن الفوضوي، غياب القانون، كلها عوامل حولت هذه الكنوز المعمارية إلى أطلال مهددة بالزوال. بعض الشناشيل هُدمت لصالح عمارات بلا روح، وبعضها تُرك يتساقط تحت المطر.
رغم محاولات فردية من مهندسين وفنانين، لا توجد حتى الآن رؤية رسمية جادة لحماية هذا الإرث الفريد. لا قانون يحمي المعمار التقليدي كما ينبغي، ولا ميزانية مخصصة لترميمه أو تحويله إلى فضاء ثقافي وسياحي حي.
الشناشيل البغدادية ليست فقط معمارًا، بل سرد بصري عن مدينة عاشت قرونًا على ضفاف نهر وتحت ظلال حضارات. هي ذاكرة من خشب وزجاج، لا يمكن تعويضها إذا ما فُقدت. والآن، وأكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى نداء عاجل، صوت يرتفع من داخل المدينة ومن صحافتها، ليقول:
لا تتركوا الشناشيل تموت، فإن ماتت، مات وجه بغداد الأجمل.