العالم - خاص
منذ عام 2003 وحتى اليوم، يعيش العراق تجربة سياسية تبدو للوهلة الأولى ديمقراطية: انتخابات، برلمان، تعددية حزبية، ومجالس منتخبة. لكن حين ينظر المواطن العراقي إلى نتائج هذه العملية الطويلة، يُصاب بخيبة أمل متكررة: لا تغيير يُذكر، ولا إصلاح يُنجز، بل تدوير متواصل لوجوه قديمة فشلت مرارًا في إدارة الدولة، ومع ذلك تعود لتتسلّم مقاليد السلطة من جديد. وهنا يُطرح السؤال الجوهري: هل ما يجري في السياسة العراقية هو مجرّد تدوير للفشل؟ أم أنه تعطيل متعمد لأي فرصة حقيقية للتغيير؟
من المؤسف أن الإجابة تميل إلى الخيار الثاني، مع أن الأول لا يقل خطورة. فالقوى السياسية المتحكمة بالمشهد العراقي لم تكتفِ بإعادة إنتاج نفسها رغم فشلها الذريع في إدارة الدولة، بل عملت على إحكام قبضتها على النظام السياسي برمّته، من خلال قوانين مفصّلة، وهيئات خاضعة، وبيئة انتخابية غير عادلة، واحتكار شامل للمؤسسات والموارد.
المشكلة لا تكمن فقط في الأشخاص، بل في بنية النظام السياسي الذي تشكّل بعد 2003 على أساس المحاصصة الطائفية والقومية. هذا النظام لم يخلق دولة مؤسسات، بل دولة محاصصات، حيث تُوزّع المناصب لا على أساس الكفاءة، بل وفق معادلات حزبية متفق عليها مسبقًا. ولهذا، حتى لو جاءت الانتخابات بنتائج جديدة، فإن التفاهمات فوق الطاولة وتحتها تعيد الأمور إلى المربع الأول.
المؤسف أن هذه المنظومة صارت تتفنن في امتصاص موجات الغضب الشعبي دون أن تُقدّم تنازلات حقيقية. فحين خرجت تظاهرات تشرين 2019 بمطالب واضحة، جرى امتصاصها ببعض الوعود وتعديل قانون الانتخابات، دون أن يتمّ تغيير جوهري في شكل الحكم أو منهجه. حتى وجوه "التغيير" التي دخلت البرلمان، تم تهميشها أو إغراقها في صراعات جانبية.
جزء كبير من المشكلة يكمن في الطريقة التي تُمارس بها السياسة في العراق؛ إذ لم يعد الهدف من السلطة هو خدمة الناس أو تنفيذ برنامج، بل الحفاظ على النفوذ وتوزيع الغنائم. ولهذا تُخترع الأزمات أحيانًا كأداة لإشغال الرأي العام، وتُستخدم القومية والطائفية كوقود في أي معركة انتخابية.
هذا السلوك لا يؤدي فقط إلى تعطيل التغيير، بل إلى تعطيل الوعي العام، حيث تُشوّه مفاهيم مثل "الوطن"، و"المعارضة"، و"المواطنة"، ويتم تصوير المطالبة بالإصلاح وكأنها تهديد للنظام. وللأسف، فإن وسائل الإعلام المرتبطة بالأحزاب تساهم في هذا التزييف، عبر خطاب تعبوي يغذي الانقسام ويُخيف الناس من بعضهم البعض.
رغم هذا المشهد القاتم، لا يمكن القول إن الأمل مفقود كليًا. فوجود جيل شبابي واعٍ، وخروج حركات مدنية تطالب بالتغيير، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي كسرت احتكار الخطاب السياسي، كلها مؤشرات على حيوية اجتماعية لا تزال حاضرة. لكنّ هذه الحيوية تحتاج إلى تراكم سياسي منظم، ورؤية وطنية تتجاوز الشعارات المؤقتة.
كما أن التجربة أظهرت أن التغيير لا يمكن أن يأتي من داخل النظام نفسه، بل من ضغط شعبي مستمر، ومشاركة سياسية ذكية، ورفض ثقافة "التطبيع مع الفشل" التي تحاول القوى التقليدية ترسيخها.
السياسة في العراق اليوم لا تنتج دولة، ولا تحقق تنمية، ولا تستجيب لتطلعات المواطنين. إنها آلية مغلقة، تدور حول نفسها، وتعيد إنتاج ذاتها، عبر أدوات قانونية وإعلامية وأمنية. وما لم يتم كسر هذه الحلقة، والانتقال إلى مفهوم حقيقي للديمقراطية والمحاسبة والمواطنة، فإن التغيير سيظل مجرد وهم... مع أن الشعب العراقي يستحق ما هو أكثر بكثير من مجرد "تدوير للفشل".