السيد ابراهيم الجعفري رجل بعيد الغور، ومن الصعب على عقل كسول التوصل الى سبر غوره. واعتقد ان الصديق العزيز معد فياض، في مقابلته معه التي نشرت أمس الأول في « الشرق الأوسط»، حاول ذلك وفشل فشلا ذريعا. وأنا اتعرض لمثل ذلك الفشل كلما حاولت الوقوف عند معاني الرجل العميقة، وغاياته الدفينة.
انظروا الى قوله في تلك المقابلة:» أنا اعتقد أن عدد المقاعد يختلف عن نوعية المقاعد». وموضوع الحديث ليس مقاعد الفلسفة ولا مقاعد السحرة، وانما مقاعد البرلمان. وهو يضرب مثلا يفسر فيه قوله ذاك بأنه كان للزعيم اللبناني كمال جنبلاط مقعد نيابي واحد عن طائفة الدروز، ورغم أن « الدروز في لبنان لا يأخذون أي رئاسة، لا يأخذون أي شيء، لكن كمال جنبلاط الدرزي كان رئيسا للوزراء».
ولقد أوقعني هذا الشرح في حيص بيص. فالمرحوم جنبلاط لم يكن يوما رئيسا للوزراء. فكيف اسبغ عليه الجعفري ذلك المقام؟ الجعفري نفسه يقول ان الرئاسات اللبنانية الثلاث موزعة على الموارنة والسنة والشيعة. إذن من أين جاء برئاسة الوزراء للدرزي جنبلاط؟ الظاهر كالعادة ان من الصعب الوقوف عند مقاصد الجعفري، خصوصا من قبلنا نحن العاملين في الصحف السيارة. فقد عرفت عنا العجلة والسطحية ، بينما يحتاج الفهم الى التأني والعمق.
وقد استشرت أحد الثقاة في مناهج التفسير الحديثة، ممن ينام الليل على دولوز ويستيقظ الفجر على فوكو، فقال: «إن المقصود بالتفريق بين العدد والنوعية في المقاعد النيابية ربما الذهاب الى معنى أن شخصا واحدا أغلبية. أفلا نقول أحيانا في كلامنا الدارج عن شخص ما بأن عقله يوزن بلد. والله أعلم».
حتى الموت يا سبحان الله تجده غامضا عند الجعفري. يعرف فيه ما لا يعرفه غيره. فقد قال، في نفس المقابلة، إنه رد على مطالبيه عام 2006 بالانسحاب من رئاسة الوزارة بالقول: « لن انسحب الا بطريقة ديمقراطية،إما البرلمان لا يصادق على رئاستي للحكومة، أو أن يسحب الائتلاف الوطني ترشيحه لي، أو الموت».
وداخ معد فياض فسأله: « ماذا تعني بالموت، القتال او ماذا؟». فيرد الجعفري ان « مفهوم الموت هو مفهوم واسع» ثم يقول ان وزيري خارجية أميركا وبريطانيا « فهموا ما أعني». فلم يلحف معد في تقصي المعنى بعدما عرف أنه وضع في أيد غربية أمينة، تحفظ في أراشيفها المعاني، كما تفعل متاحفها مع الكنوز الأثرية.
وأذكر أنني، الرجل الفقير الى اي عدة سوى فضول الصحفي، كنت قد رأيت بأم عيني عدة مرات بعض مجريات ملجأ الجادرية، ثم وليت بعد اطلاعي عليه فرارا. أما رئيس الوزراء يومذاك الجعفري فلم يكن قد عرف به البتة، يقول» موضوع ملجأ الجادرية لم أعلم به حتى الدقائق التي جاءني بها السفيران الأميركي والبريطاني برفقة جنرال وحدثاني عن الموضوع». وأنا أبصم بالعشرة على صدقه!
أما ما يصيبك بالدوار فهو وصف الجعفري حكومته بأنها «كانت أقوى وزارة في تاريخ العراق». ولقد تمنى ان لا تكون الأقوى في مستقبل العراق. ولابد ان الشعب يتمنى معه من كل قلبه ان لا تكون له في المستقبل حكومة بقوة حكومة الجثث مجهولة الهوية.