بغداد - العالم
في العام 1914 كتبت صحيفة صدى بابل التي كانت تصدر من بغداد لصاحبها المعلم داود صليوا مقالًا بعنوان "من هو معروف الرصافي"، يبدأ المقال بمدح الرصافي "هو ذاك العربي الغيور، هو ذاك الشاعر المطبوع، هو ذاك العربي العالم اللغوي المحقق، والاستاذ العربي المدقق"... "هو ذاك العربي الحر الذي رنات يراعه أجاب دويها صدى الأصقاع في جميع الأمصار في الذب عن حياض العرب"..
يستمر المقال في بيان انتماء الرصافي للعرب والعروبة حتى يصل لفقرة "هذا ما قاله كل منا بشأن معروف الرصافي قبل أن يكون نائبا في مجلس المبعوثين" وهو مجلس أسسه السلطان عبد الحميد الثاني حصل الرصافي على العضوية فيه في العام 1912. ويضيف المقال "فلما حل في مقام النيابة التي أطلقت لسانه وأوجبت عليه الاباحة بالسر المكتوم، وأنالته الدرجة التي ترمى اليها نفثات أشعاره وباتت الأمة تترقب منه الأعمال النافعة لها وتنتظر بفارغ الصبر مطابقة الأفعال للأقوال، رماها على البعد من كنانة ضميره بسهام الخيبة وأظهر لتلك الأمة المسكينة التي خدعها بالقوافي المسطرة والشطور المرتبة من ذلك السر المكتوم ما لم يكن في الحسبان".
والذي "لم يكن في الحسبان" كما تورده الصحيفة هو قيام الرصافي بمعارضة فكرة جعل تعليم اللغة العربية إجباريا في المكاتب الابتدائية في الولايات العربية، حسب قانون لجنة المعارف في مجلس المبعوثين الذي صادق على هذا القرار لولا اعتراض نائب "عربي" في اللجنة "الرصافي".
في آخر المقال يضيف الكاتب "إننا لا نعتب على حضرة النائب في في خطيته الجديدة، إنما أتينا بما أوردناه ذكرى لقوم اختاروه عنهم مبعوثا وكفى.
كتب المقال بطريقة ناقدة احترافية من المؤكد أنها لم تُمكن الرصافي من رفع شكوى على صاحب الصحيفة.. أترككم مع المقال كاملًا وسأرفقه بنفس نمط التنضيد القديم:
من هو الرصافي
هو ذلك العربي الغيور. هو ذاك العربي الشاعر المطبوع هو ذاك العالم اللغوي المحقق. والاستاذ العربي المدقق. بل هو ذاك العربي الحر الذي رنات يراعه اجاب دويها صدى الاصقاع في جميع الامصار في الذب عن حياض شرف العرب. وماللغة العربية من المحاسن والمزايا الجليلة على سائر اللغات اجمع. فانها لغة قوم هم اسسوا الملك وشيدوه ودوخوا البلاد وافتتحوا العواصم وقادوا الجيوش واستجاشوا العدة وبنوا القلاع والحصون ومهدوا سبل الامن واستكثروا من السلاح والكراع. فحازوا فوق النضالل في سمو الشرف والمنزلة ورفعة الشان وعلوا المكان فعلا طالع سعدهم واضاء كوكب جدهم. ولم يزلوا مؤيدين منصورين مظفرين فهابتهم الملوك على عروشها في جميع الاقاليم. امة شيدت للعلم صورحاً وللتمدن تصوراً وللمعارف منازل وللصنائع معاهد فكانت في مقدمة الشعوب والامم الراقية هذا فضلاً عما للغتهم من مزيد الشرف بحال ذاتها اذ انها لغة صاحب الرسلة الاسلامية ولغة القرآن الشريف. وهذه جريدة بغداد بين ايدينا فاننا لا نكاد نقرأ منها صفحة او نقلب صحيفة الا ورأينا فيها عبارات جمة تشير الى ما ذكر مدبجة بيراع حضرة هذا العربي القح الذي لا مرية في كونها ترجمان قلبه والناطقة عن فكره ومخليته الوقادة الذكية. وقد اخذنا غاية الاندهاش عندما وقفنا على ما قالته بحقه جريدة المصباح تحت عنوان نيابة شاعرنا وشعور نائبنا طالما وقف شاعرنا معروف الرصافي قبل اليوم متحمساً وانشأ القصائد الطوال متأثراً حتى غنت بها الركبان في بلاد سوريا والعراق ورددتها الصحف على صفحاتها وقال مكل منا مفتخراً لعمر الحق انه شعور كريم حرك قريحة شاعرنا العربي نحو امته ليحرك عواطفها ويثير رياح افكارها الى نهضة ادبية بعد ان عكف الخمول عليها دهرا طويلا وها نفثاته الشعرية تدل على تصاعد الزفرات من انفاسه وشدة الآلام الكامنة بين جنبيه وجدير بكل منا ان يفتخر بتلك العاطفة! ويقدر ذلك الشعور الكريم.
هذا ما قاله كل منا بشأن معروف الرصافي قبل ان يكون نائباً في مجلس المبعوثين وقبل ان يزيل مقامه عنه اليد التي اشار اليها بقوله من قصيدته الشهيرة
ولولا يد شدت لساني
لبحث بشر كالشجا هو في حلقي
فلما حل مقام النيابة التي اطلقت لسانه بعد حبسه واوجبت عليه الاباجة بالسر المكتوم وانالته الدرجة التي ترمى اليها نفثات اشعاره وباتت الامة تترقب منه الاعمال النافعة لها وتنتظر بفارغ الصبر مطابقة الافعال للاقوال، رماها على البعد من كنانة ضميره بسهام الخيبة واظهر لتلك الامة المسكينة التي خدعها بالقوافي المسطرة والشطور المرتبة من ذلك السر المكتوم ما لم يكن في الحسبان ولم يكن يدور في خلد من وقف على مضامين شعره الرائق وقرأه بانعام النظر.
فقد نشرت فتى العرب عن مخابر المقطم في العاصمة ان لجنة المعارف في مجلس المبعوثين صادقت على قانون التدريس الابتدائي في الولايات العثمانية في البلاد العربية وقد عملت من ثقة ان هذه اللجنة واكثر اعضائها من النواب الاتراك، كادت ان تقرر جعل تعليم اللغة العربية اجبارياً في المكاتب الابتدائية في الولايات العربية لولا قيام مبعوث عربي ضد هذه الفكرة. والغريب ان هذا المبعوث الذي يتظاهر اليوم بانه اشد من الاتراك انفسهم غيرة على التركية هو الذي كان يطالب منذ عامين بحقوق العرب ويقول:
سنطلب هذا الحق بالسيف والقنا
وشيب وشبانٍ على ضمر بلق
بكل ابن حرب كلما شد هزها
بعزم من السيف المهند مشتق
على اننا لا نعدب من شعور حضرة هذا النائب اليوم في مثل هذا المحضر كما كنا عجبنا من شعوره ذاك الحي العربي وعاطفته وحاساته العربية الحرة التي قذفت بها اجمع يد التربص لنيل الوظائف في مياه افكاره اياها ادبياً ومادياً عندما قرأنا له في جريدة العدل تلك القصيدة الطائية التي قال في مطلعها:
خاض الدجى وظلام الليل مختلط
صوت من الوجد مثل السيف مخترط
نحتشم عن ذكرها برمتها فمن اراد مطالعتها فعليه بالجريدة المذكورة. ومهما يك فاننا لا نعتب على حضرة النائب في خطبته الجديد انما اتينا بما اوردناه ذكرى لقوم اختاروه عنهم مبعوثاً وكفى....
***
طبعًا لا يمكن اعتماد هذه وثيقة – فيما لو افترضنا أن هذا المقال وثيقة تاريخية – على صحة كلام كاتب المقال، المعروف بجرأته ومعاداته لعملية التتريك التي كانت تنهجها الحكومة العثمانية ودفاعه المستميت عن استقلال العرب واللغة العربية. لكنها وجهة نظر قابلة للطرح والنقاش حيث لا يوجد مكان للتقديس أو الشتم كما يحدث الآن فيما لو تمت مهاجمة شاعر بمستوى الرصافي أو الجواهري، وجهة كانت تنشر في صحف الماضي خلال حياة الرصافي. لم يتم بعدها تخوين صاحب الجريدة داود صليوا، بل بقي عراقيًا غيورًا على بلده ولغة العرب.