سام كيلي
دخل العالم في نظام فوضوي جديد، فالنظام القائم على القواعد، الذي شكل أساس العلاقات الدولية وأسهم في نشوء إسرائيل الحديثة ومنع وقوع كارثة نووية خلال مرحلة "الحرب الباردة"، تلاشى أخيراً.
في الواقع، بدأت أسس النظام بالانهيار مع الغزو غير الشرعي للعراق الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003، وهو ما مهد الطريق لاحقاً للحرب الاستعمارية التي تشنها روسيا على جارتها أوكرانيا، وصولاً إلى الهجمات التي تنفذها إسرائيل اليوم ضد إيران، بدعم أميركي مباشر، شمل استخدام قنابل خارقة للتحصينات وطائرات شبح.
الهدف الإسرائيلي المعلن، وهو إنهاء البرنامج النووي الإيراني، لم يدعم بأية أدلة دامغة تثبت أن إيران كانت تشكل تهديداً وشيكاً.
كما تظهر تقارير استخبارية أميركية مسربة أن ضربات ترمب في عطلة نهاية الأسبوع، بدلاً من أن "تدمر" المنشأة النووية الإيرانية في فوردو، قد تكون أخرت الطموحات النووية الإيرانية لبضعة أشهر فقط. ووصف الرئيس الأميركي تلك التسريبات بأنها "أخبار كاذبة"، لكن صور الأقمار الاصطناعية كانت أثارت بالفعل شكوكاً في شأن فعالية العملية.
والمفارقة أن الدول التي دأب الغرب على تصنيفها ضمن "الدول المارقة" - وفي مقدمها إيران، وكوريا الشمالية، وأحياناً كوبا، وربما اليمن أو إريتريا يوماً ما - ستخلص اليوم إلى نتيجة واحدة: إنها بحاجة إلى امتلاك سلاح نووي، وبسرعة.
بدأ تمزيق النظام الدولي بدأ في أوائل العقد الأول من القرن الـ21 مع ظهور مبدأ "الضربة الاستباقية"، وهو مبدأ كانت إسرائيل هي المبادرة الأولى إلى تطبيقه من خلال ما سمي "القتل المستهدف" لأشخاص يزعم أنهم إرهابيون يشكلون تهديداً وشيكاً لها.
وقد تبنى الغرب هذا النهج بعد أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول)، وشمل ذلك عمليات قتل خارج نطاق القضاء نفذتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفاؤهما حول العالم - وغالباً ما استهدفت مواطنين من دولهم، ودائماً من دون محاكمة. وكان يقضى على من يشتبه بأنهم إرهابيون، غالباً باستخدام طائرات مسيرة، مما أسفر في كثير من الأحيان عن مقتل مدنيين أبرياء معهم.
عامي أيالون - وهو أدميرال إسرائيلي سابق – كان مسؤولاً عن جمع المعلومات الاستخبارية عن الأشخاص المستهدفين، وغالباً ما شارك في إعداد قوائم المستهدفين بالاغتيال.
وفي عام 2012، كشف فيلم وثائقي بعنوان "حراس البوابة" The Gatekeepers، شارك فيه إلى جانب أيالون خمسة رؤساء سابقين لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، عن مدى خطورة هذا المفهوم.
يذكر أيالون: "هناك مفهوم يعرف بـ’تفاهة الشر‘. فعندما تبدأ بتنفيذ هذه العمليات على نطاق واسع، ويموت 200 أو 300 شخص نتيجة لما يسمى بـ’الاغتيالات المستهدفة’، تتحول العملية فجأة إلى ما يشبه خط الإنتاج المتكرر. وتبدأ في مساءلة نفسك بدرجة أقل فأقل عن متى ينبغي التوقف".
لكن الضربات الاستباقية التي نفذتها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران خلال الأيام الـ12 الماضية، لم تدفع طهران إلى التراجع عن هدفها المتمثل في إزالة الدولة اليهودية من الشرق الأوسط.
واستناداً إلى صحيفة "نيويورك تايمز" التي نسبت إلى مسؤولين إسرائيليين قولهم إن 400 كيلوغرام من هذا اليورانيوم - الذي يمكن نظرياً تخصيبه إلى درجة نقاء 90 في المئة صالحة لصنع أسلحة نووية – كانت نقلت إلى مخابئ آمنة، وذلك قبل الضربات الأميركية على منشأة فوردو النووية الإيرانية. وتتفق "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" التابعة للأمم المتحدة والمسؤولة عن مراقبة الأنشطة النووية، مع هذا التقييم.
في المقابل قال ضابط عسكري إسرائيلي رفيع المستوى لـ"اندبندنت"، إن "الإيرانيين ليسوا أغبياء، فقد أمضوا أعواماً وهم يخططون لهذا الاحتمال، ولا يوجد سبب واحد يمنعهم من نقل اليورانيوم، المسألة لم تكن تحتاج إلى أكثر من شاحنتين فقط".
الآن، باتت إيران تعتقد بأن لديها جميع الحوافز التي تدفعها إلى المضي قدماً في تطوير سلاح نووي خاص بها، لحماية نفسها من الهجمات التقليدية التي شنتها الولايات المتحدة وإسرائيل لمنعها من امتلاك هذا السلاح، ولإسقاط نظامها الحاكم.
كما أن الولايات المتحدة أسهمت، بطرق أخرى في تقويض النظام العالمي التقليدي. ففي شهر فبراير (شباط) من هذه السنة، انتهكت واشنطن قواعد القانون الدولي، بفرضها عقوبات على "المحكمة الجنائية الدولية"، بعد إصدار المحكمة مذكرات توقيف في حق قادة إسرائيليين، بتهم ارتكاب جرائم حرب مزعومة في قطاع غزة.
إدارة ترمب رأت أن "المحكمة أساءت استخدام سلطتها بإصدار مذكرات اعتقال، لا أساس لها، في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت".
ويمكن القول إن الدعم المستمر من الولايات المتحدة لإسرائيل خلال قصفها لغزة - الذي أسفر، بحسب مسؤولين فلسطينيين، عن مقتل ما لا يقل عن 50 ألف شخص - في تحد واضح لإدانة الأمم المتحدة، قد أسهم بصورة أكبر في تقويض فكرة النظام الدولي القائم على القواعد.
كذلك، إن درس أوكرانيا لن يغيب عن بال إيران أو كوريا الشمالية أو أية دولة أخرى تفكر في التسلح النووي. فعندما انهار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، ورثت أوكرانيا ترسانة نووية ضخمة، تضم نحو 1900 رأس حربي استراتيجي، و176 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات، و44 قاذفة استراتيجية. مما جعلها تمتلك ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم آنذاك.
إلا أن أوكرانيا وقعت على "معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية" في عام 1994، وبحلول عام 1996، كانت أعادت جميع الرؤوس النووية التي كانت في حوزتها إلى روسيا.
وبعد 18 عاماً، غزت روسيا أوكرانيا، وفي عام 2022، شنت هجوماً شاملاً بهدف إطاحة حكومتها المؤيدة لأوروبا، التي انتخبت ديمقراطياً في العام الذي سبق.
الآن، وبعدما مزق الغرب مبادئ القانون الدولي من خلال حروبه غير القانونية، يبرز استنتاج واحد واقعي وهو: لو كانت لدى إيران أسلحة نووية، أو لو كانت لدى أوكرانيا "القنبلة النووية"، لما تجرأ أحد على غزوهما أو مهاجمتهما.
في النتيجة، قد يقلل الرئيس ترمب من شأن الأزمة المتصاعدة بقوله إن إسرائيل وإيران "لا تعلمان بحق الجحيم ما تفعلانه"، لكن كلا الجانبين استخلصا الدرس القائل إنه في هذا ظل النظام الجديد الذي تحكمه الفوضى، لا ينجو إلا الخطرون.