القيم القرانية للمركب الحضاري
27-أيار-2025

محمد عبد الجبار الشبوط

الجزء الثالث والاخير

المحور الرابع: العلم أساس التمكين في الأرض

الآية الأساسية:
﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾
(يوسف: 56)
هذه الآية تقدم مثالًا تطبيقيًّا رائعًا على كيف يؤدي العلم – مقرونًا بالإخلاص وحسن الإدارة – إلى التمكين الحضاري. قصة يوسف عليه السلام تجسيد حيٌّ لمسار الانتقال من محنة إلى مَكِنة، وكان مفتاح هذا التمكين هو العلم والإحسان.
1. "مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ":
التمكين ليس فقط سياسيًّا بل هو اقتصادي واجتماعي. فتمكن يوسف من مفاصل الدولة المصرية بفضل علمه في تفسير الرؤى، والإدارة، وتخطيط الموارد.
2. "يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ":
الحرية في الحركة واتخاذ القرار تعني أن التمكين الحقيقي يُكسب صاحبه سلطة نافذة في خدمة الناس. كما ان الصلاحيات الدستورية تسهل على صاحب القرار اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
3. "نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ":
الربط بين التوفيق الإلهي والعمل البشري، فالعلم وحده لا يكفي، بل يتطلب نية صادقة واستحقاقًا أخلاقيًّا.
4. "وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ":
والإحسان هنا يشمل الإتقان، والنزاهة، والصدق، وهي القيم التي تضمن أن العلم يؤدي إلى تمكين نافع لا استبداد مفسد.
البعد الحضاري في الآية:
- تُظهر الآية أن العلم التطبيقي والإداري يمكن أن يكون وسيلة عملية للنهضة.
- يوسف عليه السلام جمع بين الرؤية العلمية (تفسير الأحلام) والخطة الاقتصادية (ادخار الطعام) والتنفيذ (إدارة الأزمة).
- النموذج النبوي يُبيِّن أن العلم سبيل للسيادة الحضارية إذا اقترن بالإحسان.

الفصل الخامس
العمل – الطاقة المحركة للحضارة
يُعدّ العمل في القرآن الكريم ركيزة أساسية من ركائز المركب الحضاري، إذ يشكل الطاقة المحركة التي تُفعّل عناصر الإنسان، الأرض، الزمن، والعلم. فالعمل هو التجسيد العملي للإيمان، وهو الوسيلة التي بها يتحقق العمران والاستخلاف.
المحور الأول: العمل الصالح – معيار القبول والجزاء
الآية الأساسية:
﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾
(الكهف: 110)
تُبيّن هذه الآية أن العمل الصالح هو الطريق إلى رضا الله، وأنه لا يكفي الإيمان النظري دون عمل يُترجم هذا الإيمان إلى واقع.
1. "فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا": دعوة صريحة إلى العمل الصالح، أي العمل الذي يتوافق مع القيم الانسانية والشريعة الالهية ويُبتغى به وجه الله.
2. "وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا": شرط قبول العمل أن يكون خالصًا لله، دون رياء أو سمعة.
البعد الحضاري في الآية:
- العمل الصالح هو الذي يُسهم في بناء الفرد والمجتمع، ويحقق التنمية المستدامة.
- النية الخالصة تجعل من العمل وسيلة للارتقاء الروحي والاجتماعي.

المحور الثاني: العمل كوسيلة للرزق والاستخلاف
الآية الأساسية:
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾
(الملك: 15)
تُبرز هذه الآية معادلة واضحة في التصور القرآني: الأرض مهيّأة للإنسان، والرزق فيها متاح، ولكن الوصول إليه لا يتم إلا من خلال الحركة والعمل والسعي.
1. "جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا":
أي مُيسَّرة ومهيّأة للاستثمار، وفيها من الخيرات ما يكفي للناس جميعًا إذا أحسنوا التدبير والعمل.
2. "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا":
أمر بالسعي في الأرض، أي العمل المتنوع في جميع مجالات الحياة: الزراعة، الصناعة، التجارة، الابتكار.
3. "وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ":
الرزق مكفول، لكنه مشروط بالسعي، لا بالتواكل أو الركون. والعمل هو الوسيلة المشروعة لتحصيل الرزق.
4. "وَإِلَيْهِ النُّشُورُ":
تذكير بأن العمل لا يقتصر على المعاش الدنيوي، بل هو جزء من المسؤولية الكبرى التي يُسأل عنها الإنسان في الآخرة، مما يربط بين الأداء العملي والمحاسبة الأخروية.
البعد الحضاري في الآية:
- تربط الآية بين العمل والكرامة الإنسانية، حيث لا رزق بلا جهد، ولا استخلاف دون مسؤولية.
- الحضارات لا تُبنى بالأماني بل بالجهد المنظم في استثمار خيرات الأرض.
- إشراك البعد الأخروي في مفهوم العمل يُحوّله من مجرد وسيلة للعيش إلى فعل حضاري يحمل قيمة ورسالة.

الفصل الثالث
الزمن – إطار العمل والتقدم
المحور الأول: قيمة الزمن في ميزان القرآن الكريم

المحور الثالث: إتقان العمل كقيمة قرآنية
الآية الأساسية:
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾
(التوبة: 105)
تحث هذه الآية على العمل، لكنها لا تكتفي بمجرد الأمر به، بل تربط العمل بالرقابة الإلهية والاجتماعية، ما يحفز على الإتقان والإخلاص. فهي تمثل قاعدة ذهبية في فلسفة العمل الإسلامي.
1. "وَقُلِ اعْمَلُوا":
أمر بالعمل موجه للنبي ﷺ ليبلّغه للناس، مما يدل على مركزية العمل في الرسالة الإسلامية، سواء أكان دنيويًّا أو دينيًّا.
2. "فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ":
رقابة إلهية دائمة، تعني أن كل عمل، صغيرًا كان أو كبيرًا، لا يخفى على الله، ما يدفع إلى الإخلاص والتجويد.
3. "وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ":
جانب من الرقابة الاجتماعية، فالإتقان ليس فقط عبادة بل مسؤولية تجاه الجماعة، لأن نتائج العمل تنعكس على المجتمع. الإتقان لا يعني الكمال فقط، بل يشمل الأمانة، التخصص، الدقة، والنتائج المثمرة.
البعد الحضاري في الآية:
- الإتقان هو الذي يميز المجتمعات المتقدمة عن المتخلفة، وهو مبدأ قرآني أصيل.
- إذا التزم كل فرد بإتقان عمله، تتكامل الأعمال وتُبنى الحضارات.
- الإتقان لا يتحقق إلا إذا ربط الإنسان عمله بالقيم الإيمانية والرقابة الذاتية ومعايير الجودة.

المحور الرابع: العمل والجزاء – المسألة الحضارية

الآية الأساسية:
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
(الزلزلة: 7–8)
تقدم هذه الآية مبدأً شاملًا للعدالة والمسؤولية، حيث لا يُهمل أي عمل، مهما كان صغيرًا، بل يُرصَد ويُحاسَب عليه. وهذه الرؤية القرآنية تخلق إنسانًا يتحرك بدافع داخلي من المسؤولية، ويؤسس لمجتمع يقوم على الإنصاف والرقابة الذاتية.
1. "مِثْقَالَ ذَرَّةٍ":
تعبير يدل على أقصى درجات الدقة، حيث لا يغيب عن الحساب حتى أصغر الأعمال. وهذا ينشئ ضميرًا حيًّا لا يسمح بالإهمال أو الغش أو التقصير.
2. "يَرَهُ":
أي سيرى ثمرة عمله، خيرًا كان أو شرًّا. فالرؤية هنا بمعنى التجلي الواضح للنتائج، سواء في الدنيا أو الآخرة.
3. المفهوم الحضاري:
- لا يمكن بناء حضارة من دون نظام جزائي أخلاقي وعملي.
- المجتمع الذي يوقن أن كل عمل سيُجازى عليه، يتحول إلى كيان منضبط وفعّال.
- حتى الأعمال التي قد لا يراها الناس، تُسجَّل وتؤثر، وهذا يزرع ثقافة الالتزام في كل فرد.
البعد الحضاري في الآية:
- هذه الآية تُعلي من قيمة المسؤولية الفردية: كل فرد مسؤول عن عمله، لا مكان للتواكل أو الاعتماد على غيره.
- تزرع مفهوم "المساءلة الدقيقة" الذي يمثل أحد أعمدة الإدارة الحضارية الحديثة.
- تشكل أساسًا أخلاقيًّا يحمي الحضارة من الانهيار الداخلي بسبب الفساد أو التقاعس.

الخاتمة
يتبين مما سبق أن جذور القيم الحضارية القرانية راسخة في الأرض، وأن فروعها ثابتة في السماء، نبعها عقيدة صافية وإيمان قوي، ما أحوجنا اليوم لتجديدها وتدعيمها واستثمارها .
لقد كشف القرآن الكريم عن أن الحضارة ليست مجرد تراكم مادي أو تقني، بل هي مشروع إنساني متكامل، يقوم على:
- الإنسان: كائن مكرم، مستخلف، مسؤول عن إعمار الأرض.
- الأرض: مورد متجدد، أمانة في يد الإنسان، تتطلب الحفظ والاستثمار.
- الزمن: رأس مال لا يُعوّض، يُدار بحكمة ويُستثمر في الخير.
- العلم: وسيلة للفهم والتسخير، شرطه الإخلاص والمنفعة.
- العمل: ترجمة للإيمان، أساس للرزق والتمكين، يُحاسب عليه الإنسان.
هذه العناصر الخمسة تتفاعل في القرآن ضمن منظومة متكاملة، تُنتج حضارة متوازنة، تجمع بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع، بين الدنيا والآخرة.
لقد كشفت هذه الدراسة عن أن القرآن الكريم لا يقدم نصوصًا دينية منعزلة عن واقع الإنسان، بل يبني مشروعًا حضاريًا متكاملاً، يتأسس على منظومة من القيم والعناصر تتفاعل في ما بينها لتُخرج "الإنسان الصالح المصلح".

الإنسان هو محور الحضارة

القرآن يجعل الإنسان مسؤولًا ومستخلفًا، لا تابعًا سلبيًّا، بل شريكًا في البناء، مزوّدًا بعناصر: الأرض التي يعمرها، والزمن الذي يستثمره، والعلم الذي يكتشف به سنن الله، والعمل الذي يترجم به إيمانه.

القرآن وصناعة الإنسان الفاعل

يتبين من خلال منظومة القيم القرآنية أن هدف القرآن الأساس هو إيجاد الإنسان الفاعل المنتج، المؤمن بهذه القيم، والذي يكرّس حياته للعمل الصالح بموجبها. ومن هنا جاءت ثنائية "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" كأحد أكثر التعبيرات تكرارًا في القرآن الكريم.
هذه الثنائية ليست مجرد وعظ ديني، بل هي معادلة حضارية:
- فـ"الإيمان" يزود الإنسان بالهوية والقيم والدافع.
- و"العمل الصالح" هو التطبيق الواقعي لتلك القيم في بناء الذات، والعلاقات، والمؤسسات، والبيئة.
بهذا، يصبح الإنسان المؤمن بالقرآن ليس معتنقًا لأفكار فحسب، بل مُعمّرًا للأرض، نافعًا للناس، عاملًا على الخير، يربط بين الدنيا والآخرة، ويجعل من حياته مسارًا لصناعة حضارة متجذرة في القيم، متجددة في الوسائل.


التوصيات
1. إعادة قراءة القرآن الكريم بمنظور حضاري: لفهم كيف يؤسس القرآن لمشروع حضاري متكامل.
2. تعزيز التربية القرآنية: بما يُنمّي في الإنسان وعيه بمسؤوليته الحضارية.
3. الاستفادة من السنن الكونية والاجتماعية: التي كشف عنها القرآن، في بناء خطط التنمية المستدامة.
4. الربط بين القيم الإيمانية والواقع العملي: لتحقيق التوازن بين الروح والمادة في مسيرة الحضارة.
5. تشجيع البحث العلمي: الذي يستلهم من القرآن رؤى جديدة في مجالات الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، والعمل.

البرلمان يتحرك على شراء منظومات دفاع جوي وتفعيل الاستجوابات
18-حزيران-2025
مرصد بيئي: نصف العراق متصحر!
18-حزيران-2025
بيان مشترك لـ20 دولة بشأن الهجمات بين إسرائيل وإيران
18-حزيران-2025
مؤتمر في لندن يناقش واقع النظام الصحي في العراق
18-حزيران-2025
العراق يفعّل حالة الطوارئ تحسباً لخطر قصف النووي الإيراني
18-حزيران-2025
خطة لإعادة جميع العراقيين العالقين في المطارات الدولية
18-حزيران-2025
ارتفاع أسعار النفط وجيوب المواطنين في حالة شحوب
18-حزيران-2025
البرلمان يتحرك على شراء منظومات دفاع جوي وتفعيل الاستجوابات وقطع العطلة
18-حزيران-2025
العراق يفعل غرفة الطوارئ تحسبا لأي تسرب إشعاعي
18-حزيران-2025
«حرب النفط» على الأبواب.. العالم يترقب 4 ارتدادات مدمّرة
18-حزيران-2025
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech