لم اعرف جعفر محمد باقر الصدر، شأني في ذلك شأن معظم العراقيين الذين عرفوه بعد ترشيحه ثم فوزه، الملفت، في الانتخابات العامة على لائحة «دولة القانون».
لكن من المؤكد ان غالبية العراقيين يعرفون اسرته الكريمة عموما، ووالده خصوصا المفكر الاسلامي محمد باقر الصدر، اشهر واكبر قتلى صدام حجما. فالشهيد الصدر بقدر ما هو علامة فارقة في تاريخ الأفكار السياسية والدينية في العراق الحديث، فانه علامة فارقة ايضا في تاريخ فظائع صدام.
ان الكثير من الدكتاتوريات والأنظمة التسلطية ظهر واختفى دون ان تسجل عليه انتهاكات حمراء قانية. نعم ان كل انتهاك لحقوق الانسان يقع من حيث المبدأ في قائمة الافعال اللاانسانية الممنوعة. ولكن مع ذلك فان بعض الافعال اكثر شناعة من بعض، وعلى الاخص منها ما يتعلق بأركان الاستقرار الاجتماعي.
الدين، وتمثيلاته المشخصة في عبادات وشعائر وابنية ومنشآت ورجال، احد اهم اركان الاستقرار الاجتماعي في كل بلد من بلدان العالم، المتخلف او المتقدم. فلا تجرؤ حكومة في اكثر بلدان العالم تقدما على ان تمنع طائفة من ممارسة شعيرة دينية، مهما كانت درجة لاعقلانيتها. هذا ليس شأن الحكومات ابدا. بل على العكس من ذلك فان شأن الحكومات ان تحرس حرية الناس في ممارسة عباداتها وشعائرها.
والفارق بين التخلف والتقدم يكمن في تحريم او تحرير اخضاع المقدس للمناقشة العلمية. في البلدان المتقدمة يمكن ان يكون لك رأي في المقدس، وان تعلن ذلك من دون عواقب. بينما قد يتعذر ذلك في البلدان المتأخرة او ان تكون له عواقب وخيمة.
وقد كان قتل صدام للعلامة الصدر، مثلما كان منعه الشيعة من اداء بعض شعائرهم، من بين ذلك النوع من الافعال الشنيعة الذي يوصف بانه تجاوز للخطوط الحمر. وبذلك كان نظام صدام بين دكتاتوريات نادرة في العالم تعدت على الدين ، ما شكل ضربة لأساس من اسس الاستقرار الاجتماعي.
والشيء الأصيل الذي لاحظته في الصدر الابن، جعفر، انه حامل لواء دعوة عميقة للاستقرار الاجتماعي. فهو عبر، في المقابلات القليلة التي اجريت معه، عن رفضه لفكرة الثأر. وقال ان « الثأر» الأفضل لدم الصدر يكمن في تحسين مصير العراق وبناء مستقبل زاهر.
وهذا الكلام، على نبله، لا يمثل مفاجأة من سليل اسرة كريمة وابن رجل كبير. فلا استطيع ان اتخيل سليل السيد الصدر في موقع من يرفع راية «الثأر»، ويصدر عن فكرة الانتقام. فليس هذا طريق الشهداء والقديسين والأحرار ابدا، وانما هو سبيل الخارجين عن القانون. ولا اتذكر من قال ان الجريمة هي خروج عن القانون أما الثأر فهو الغاء للقانون.
ولعل كثيرين مثلي يأملون ان يكون هذا اول غيث جعفر، وان يزيد عليه ما يرفعه الى قامة سياسية ذات حساسية جديدة موافقة للعصر.