رعد كريم عزيز
اللغة صوت التوصيل والمواصلة والاتصال الضروري لتوضيح الخطاب بين البشر ,وحتى لغة الاشارة فانها عملية تعويض عن اللغة المفقودة صوتا,والمشكلة الاساسية في الحفاظ على اللغة الام هي ان عملية تكرار وتوريث اللغة تتم عبر تعليمها وتلقينها للافراد,لان اللغة المحكية تنافسها باسرع الطرق ,الا وهي المعايشة والتلقين الحياتي المعاش,لناخذ مثالا حيا,فحين تحاول الام تلقين وليدها كلمة ماما,فليس بالضرورة ان تقولها بالفصحى ماما,لانها تعطيه احيانا مفردات مشتقة من الكلمة ,مثل يامو/اِمي /او تقطيعا والاكتفاء بمقطع من حرفين /ما وهي بذلك تدخله في اتون اللغة المحكية من اول باب ,وفي العراق لا يصل الاطفال الى اللغة الفصحى رسميا الا بدخولهم الى المدرسة الابتدائية,فيتحول اسم البيت من "حوش" الى دار وبيوت الى دور ,والاقتصار على هذه المفردة باعتبارها الكلمة الفصحى التي يجب ان نتكلم بها ونكتبها ,وما عداها فهو خارج اسوار المدرسة التي تدافع عن اللغة باعتبارها تاريخا قديما غير خاضع للنقاش.
اما في العراق وتجربته مع اللغة ,فانه لايعبر الحدود ولا يخرقها بين الفصيح والشعبي ,فهو ينظر للامر بقداسة كبيرة ,لها ابعاد دينية وقومية وابعاد رئاسية حكومية ,فيما يتم النظر الى اللغة المحكية باعتبارها عالم اخر ,بعيد وخاص وغير معترف به رسميا.
ولكن الامر غير ذلك تماما,لان الممارسة العملية في استخدام اللغة ,وطرق التفكير بها ,تبدأ بالشعبي ومن ثم تتحول الى الفصحى ,وهي بذلك تشبه تماما ,تحويل الشكوى او الطلب في باب الدوائر الرسمية على يد كاتب العرائض ,من الشفاهي باللغة المحكية الى اللغة الرسمية الفصحى ,وليس بجديد التذكير بالطرفة المتداولة ,حين طلب احدهم من كاتب العرائض كتابة تظلم ,وحين اكمل الكاتب تدبيج الشكوى بالكلمات الحزينة ,واختيار المفردات التي تعبر عن اقسى حالات الظلم ,ومن ثم اعادها على مسمع المشتكي انهار المشتكي بالبكاءقائلا:
-يا بوياي كل هذا بي وانه ما ادري.(ياابي كل هذا يمر بي وانا لا ادري)
وهذا الاحساس كناية عن قدرة الكاتب في التعبير ,والقدرة في التاثير على الاخرين عبر اللغة ,وما يهمنا هنا ,ان اللغة اختلفت واختلف الاحساس والفعل ورد الفعل.فلو اتيح لهذا المشتكي ان يقول باللهجة الشعبية لاوصل شكواه باعلى تاثير للمتلقي الاخر الذي يفكر بالشعبي كذلك,وهنا تحولت الفصحى الى اداة توصيل للشعبي.
فيما تحيلنا التجربة المصرية ,الى عبور الحواجز ,والتصالح التام بين الفصحى والشعبي ,بين لغة التراث وبين اللغة المحكية ,وقلب الحروف واستعمال التوصيفات دون اعتراض ,حتى في الكتب الادبية ,وفي النقاشات التي تعتمد الفصحى ,فالاريكة التي يجلس عليها الانسان وهي ضمن اثاث بيته ,تسمى في اللهجة المصرية "كنبة" ويكتبها اغالب الادباء في كتبهم الادبية "كنبة" دون اعتراض او نقاش.ويجب التذكير هنا بان اللهجة ,وعاء يحوي خليطا من لهجات مختلفة ,في عالمنا العربي ,فهناك التركية والفارسية والكوردية والانكليزية والفرنسية وغيرها ,ولكن في مصر تستخدم اللهجة المحكية في الاعلام والكتب بطريقة لينة تسمح للجميع باستخدامه في البيت والسينما والجامعة و"على الئهوة" اي في المقهى.
اما في العراق فان هناك حدودا صعبة بين الفصحى والشعبي ونقل لي احد الاصدقاء طرفة تقول ان احدهم يستدين النقود باللغة الفصحى:
-هل استطيع الحصول على بعض النقود؟
وعندما يصل الوقت للتسديد يقول:
- يابه دروح من اجيبلك فلوس هسه.
اننا هنا ازاء واقعة تشير الا ان اللغة في طلب النقود مهذبة ,قابلة للتصديق والحيلة.وعن التسديد يمكن استعمال اللهجة المحكية لاثبات القوة او الانكار ,لانها ابلغ توصيلا ,واوضح في ابلاغ الرسالة لانها تخاطب العقل الدفين الذي يستخدم اللهجة بكل سلاسة ويسر.
ما نريد ان نصل اليه في كل ما تقدم ,هو ان اللغة المحكية/اللهجة الشعبية /الكلام اليومي / لها تاثير اجتماعي وعاطفي كبير لايمكن نكرانه ,فان كانت لغة الخطاب الرسمية هي الفصحى ,فان المحكية هي اداة الغناء والشعر والمسرح والسينما ,والتعامل اليومي في الاسواق والدوائر ,وفي الفرصة مابين الدروس في المدارس والجامعات والوزارات ,ولكن الطامة الكبرى ان هناك من ينظر الى اللغة المحكية اليومية وكانها من الدرجة الثانية والمحرمة ,فاذا كانت كذلك ,فاين نذهب باغاني ناظم الغزالي وتاثيرها العاطفي لغة ولحنا وصوتا؟
واين نذهب بشعر الحاج زاير (العن ابو المجرشة والعن ابو راعيها)؟.
واين نذهب بمسرحيات عراقية حققت تاثيرا كبيرا في الجمهور وهي تقدم باللهجة الشعبية؟
واقرب مثل على هذا الالتباس ,اين نذهب بحوارات الروائي غائب طعمة فرمان والتي يبدأ بها من الصفحات الاولى في روايته الشهيرة ,النخلة والجيران والتي تحولت الى المسرح والتمثيل الاذاعي ؟
قد يرجع بعضهم التباس الامر هنا ,الى القول الذي يشير الى الحدية والخشونة في الطباع العراقية,التي لا تسمح بفتح الابواب بين الفصحى والشعبي وبين الرسمي والحياتي ,ولنا مثال واضح بالاهتمام الرسمي بالفصحى دون الشعبي في تنفيذ تماثيل المبدعين في العراق ,فهناك الرصافي والجواهري ,والمتنبي ,وهناك تمثال وحيد للشاعر عريان السيد خلف في الناصرية ,كونها عالم خاص ومصنع كبير للشعر الشعبي بتاثيرها الكبير لدى العامة والخاصة في المدينة,الم يقل شاعر الناصرية لطيف العامري:
(والفرات يصير شاعر من يمر بالناصرية) اي ان الناصرية مصدر اشعاع للشعر ,فحتى الفرات يصبح شاعرا حين يمر بها.
ولست بمدافع عن ازاحة الفصحى لصالح الشعبي ,فهذه دعوة ساذجة ,ولكني مع اعادة الاعتبار للهجة الشعبية ,وفرز الثقيل منها وابراز نماذجها الابداعية ,في الاغاني والاعمال الفنية ,والتعامل الحياتي والانحياز(هله عيوني ,شلونك اغاتي ) بالضد من ( ولي ولك ..عابتلك ).
وهي دعوة تتضمن الاهتمام بالفلكلور والتراث الشعبي ,ولدينا الكثير من المبدعين الذين يمكنهم النهوض بهذه المهمة ,لفرز الغث وتقريب وجهات النظر بين الفصحى والشعبي لانهما ينهلان من منبع واحد تاريخيا واجتماعيا من ايام سومر ولليوم.