تمهيد: الظاهرة الموصوفة — كثرة الأحزاب، خصوصًا داخل البيئتين الشيعية والسنية، وخوضُ الانتخابات بتحالفات عريضة متسترة تنهار سريعًا بعد الاقتراع — ليست مجرد تفصيل حزبي بل هي تعبير عن بنيةٍ سياسيةٍ ما قبل-دولتية تتغذّى من هويةٍ اجتماعيةٍ ضيقة ومن اقتصادِ غنيمةٍ يلتهمُ مؤسسات الدولة، فتنتج تعدديةً شكليةً بلا مضمون ديمقراطي، وتولِّد دورةً مستمرةً من التحالفات الموسمية ثم التفكك ثم إعادة التموضع على قاعدة القوة لا على قاعدة القانون.
أولًا: التشخيص البنيوي للسبب
1. هوية سياسية جمعية ضيقة: التمثيل يُبنى على العصبية (مذهب/قوم/عشيرة/منطقة) لا على برنامج وطني، فيتشظى الحقل الحزبي وفق خرائط الاجتماع لا وفق خرائط الأفكار.
2) شخصنة الشرعية: الولاء يتجه إلى الزعيم لا إلى المؤسسة، فتُقاس الأحزاب بأشخاص يقودون شبكات ولاء ومصالح لا بأطر فكرية وتنظيمية مستقرة.
3) اقتصاد الغنيمة: الدولة تُعامل كحصةٍ تُقسّم، ما يدفع إلى تكثير الواجهات الحزبية لضمان مقاعد تفاوضية أكبر عند تشكيل الحكومات وتوزيع المواقع.
4) نقص “ثقافة الحزب-المؤسسة”: ضعف الديمقراطية الداخلية، غياب آليات صنع القرار والتمويل الشفاف، هشاشة مراكز الدراسات والبرامج، كل ذلك يجعل الحزب قابلًا للاستبدال بواجهة جديدة متى تغيّر الظرف.
5) هندسة انتخابية حافزة للتشظي: طريقة توزيع المقاعد، شكل الدوائر، وضع العتبة الانتخابية، وطبيعة القوائم—حين لا تُصمَّم بعناية—تكافئ الكتل الصغيرة والتحالفات الظرفية وتُعاقب الاندماج المؤسسي طويل الأجل.
6) فراغٌ قيمي-برنامجي: غياب مشروعٍ وطني حضاري جامع يُعرّف المصلحة العامة ويحوّل الولاءات من “من نحن؟” إلى “ماذا سنفعل؟” يترك الساحة لخطاب الهوية والتخويف والتعبئة الانفعالية.
ثانيًا: لماذا تُفضِّل القوى خوض الانتخابات تحت “تحالفات متسترة”؟
هذه التحالفات ليست وحدةً فكرية بل “مظلّات تفاوضية” هدفها: أ) تعظيم الحصيلة العددية بإظهار كتلة أكبر من الحجم الحقيقي لكل مكوِّن، ب) تبديد المسؤولية السياسية عبر توزيعها على عناوين فضفاضة، ج) فتح هوامش مناورة بعد الاقتراع لعقد صفقات تشكيل الحكومة. ولأنّ الجامع ليس برنامجًا مُلزِمًا بل “غرفة عمليات انتخابية”، تنهار المظلّة عند أول اختبار لتوزيع السلطة.
ثالثًا: لماذا تفشل محاولات الاندماج في أحزاب أكبر؟
الاندماج الحزبي يتطلب ثلاثة شروط: مشروعًا وطنيًا مُتّفقًا عليه، ومؤسساتٍ داخلية عادلةً لتوزيع القرار والفرص، وثقافة التنازل المتبادل. في الواقع العراقي تصطدم هذه الشروط بعقبتين: هيكل ولاءاتٍ متصلب (زعامة/شبكات تمويل/امتدادات اجتماعية) وهندسة انتخابية لا تُجبر القوى على دفع كلفة البقاء منفردة. النتيجة: تفضيل “التحالف المؤقت” ذي الكلفة المتدنية على “الاندماج المؤسسي” ذي الكلفة التنظيمية العالية.
رابعًا: الأثر المباشر على الديمقراطية
1. تحويل التعددية إلى تفكك: الكثرة هنا لا توسّع سوق الأفكار بل تُجزِّئ المجال العام إلى أسواق نفوذ.
2) برلمان مساومات لا سياسات: تتغلب “سياسة الصفقات” على التشريع والرقابة، فيُدار البرلمان كحلبة توزيع مكاسب.
3) حكومات تفاوض دائم: هشاشة الأغلبية تجعل عمر السياسات أقصر من عمر التفاهمات، فتغيب الاستراتيجية وتعلو التكتيكات. 4) محاسبة مشوَّشة: حين تُستبدل العناوين وتدور التحالفات، يضيع الخيط بين الوعد والمسؤولية، فتتآكل آلية “عاقِبْ وكافِئْ” جوهر الديمقراطية التمثيلية. 5) أَمْوَلة السياسة: مع تضخم الكيانات الصغيرة، تصبح كلفة جمع التحالفات أعلى، فيزيد نفوذ المال السياسي على حساب الكفاءة والبرنامج.
خامسًا: كيف نعيد ربط التعددية بالديمقراطية؟ (خارطة إصلاح واقعية)