فتح سقراط: الحياة الوحيدة التي تستحق أن تعاش
26-شباط-2025

احمد شافعي
ربما مضى عليك الآن قرابة شهرين منذ أن وضعت خطتك للعام الجديد وفشلت غالباً في تنفيذها، فلا أقلعت عن التدخين ولا انتظمت في الرياضة، ولا أصبحت الإنسان الجديد المذكور في أشهر برامج تطوير الذات في زماننا.
وقد لا ينبغي أن يحزنك هذا الفشل كثيراً، فمن الأخبار السعيدة التي يحملها لك كتاب "فتح سقراط.. انتصاراً للحياة الفلسفية" للكاتبة الأميركية أغنيس كالارد الصادر حديثاً في 400 صفحة عن "دار "نورتن"، أن تطوير الذات، بحسب فهمنا المعهود للمصطلح، لا يتعلق بقوة الإرادة بقدر ما يتعلق بالأفكار.
تكتب جينيفر زالاي في استعراضها للكتاب ["نيويورك تايمز" - 15 يناير (كانون الثاني) 2025] أن الأمر لا يتعلق بكوننا "كائنات ضعيفة الإرادة تعرف الخير لكنها تعجز عن اتباعه، ولكن الأمر أننا لم ننل من الوقت ما يكفي لنفكر في المقام الأول في ماهية الخير"، وتكتب أن "مشقة كفاح المرء من أجل أن يكون خيّراً أو فاضلاً أو أخلاقياً هي في المقام الأول عمل فكري".
لعل هدف "فتح سقراط" الأساس هو أن يغير، ولا أقول يضبط، المنظومة القيمية لنا كي نخرج منه ونحن نعلي الأفكار على ما سواها، ونذهب من أجل تقوية عضلاتنا إلى المكتبة لا إلى الجيمنازيوم.
عجز تولستوي
تعلم كالارد، وهي أستاذة الفلسفة في جامعة شيكاغو، أن زيادة النزعة الفكرية ليست بالسلعة الرائجة أو يسيرة الترويج، ولذلك تتريث حتى الصفحة الـ29 بعد المئة قبل أن تصف أسلوبها المختار بـ "النزعة الفكرية المتشددة"، ولكن حماستها الشديدة لموضوعها ترغم حتى القارئ المتشكك على الشعور بفورة الحماسة وهي تشق الطريق انتصاراً للحياة القائمة على العقل، فهي تريد لكتابها أن يؤدي مهمتين معاً، ترويج أخلاقيات سقراطية جديدة يمكن أن يجيزها زملاؤها من المتخصصين في الفلسفة، وإمداد القارئ العام بمقدمة سهلة مفادها أن "عيش حياة فلسفية حقيقية يمكن أن يجعل الناس أكثر حرية ومساواة وأكثر رومانسية وشجاعة".
لقد كان الأديب الروسي تولستوي وهو في الـ 50 من العمر، في ذروة نجاحه الملموس، فهو متحقق في الكتابة وثري ومنعّم بالصحة والأسرة، لكن عذاباً وجودياً حل عليه فإذا به يسأل سؤالاً أفضى به إلى حافة الانتحار: فيم كانت حياتي كلها؟
يكتب تيم كلير في استعراضه للكتاب ["ذي غارديان" - 16 يناير 2025] أن أغنيس كالارد تسمي هذا السؤال "مشكلة تولستوي التي تنتمي إلى فئة الأسئلة غير مناسبة التوقيت، أي القضايا بالغة الضخامة التي يمكن أن نقضي أعمارنا برمتها في اجتنابها، وهي ليست فقط أسئلة صعبة الإجابة ولكنها أيضا صعبة الطرح، وقد تكون مثلما يتبين في حال تولستوي أسئلة خطرة وبخاصة إذا لم يكتمل العمل عليها، فيصبح الأمر شبيهاً بالتوقف عن مد الأسلاك في منزلك بحيث تبقى عارية على الأرض. وتذهب كالارد إلى أن خطأ تولستوي لم يتمثل في إثارته هذه الأسئلة المخيفة وإنما في تسرعه في الإجابة، فثمة تزامن بين السؤال والجواب، إذ يخلص على الفور إلى أن مشكلته تستعصي على البحث المجدي.
ويقول تيم كلير إن "جوهر كتاب كالارد يتمثل في أن شخصية سقراط تمنحنا المخرج الذي عجز تولستوي عن العثور عليه"، فيما تكتب جينيفر زالاي أن الكتاب فاتن وذكي ولكنه مثير للضيق بين حين وآخر، فسقراط الذي تصفه كالارد بـ "منغّص اللذات" كان معروفاً بتحدي الناس حد إغضابهم، دافعاً إياهم إلى إمعان التفكير في احتمال ألا يكون ما نطقوا به هو ما قصدوه حقاً، وقد كتب سقراط أنه "كان من دواعي حزني وفزعي أن أدركت أنني أفقد محبة الناس"، فقد أثار حفيظة عدد من الساسة ذوي القول النافذ في أثينا، وقد افتتنت كالارد بالفلسفة السقراطية منذ أن كانت طالبة جامعية لدرجة أنها أرادت أن تكون سقراط فشرعت تطارد الغرباء في متحف فني بأسئلة كبيرة عن معنى الحياة، وتكتب عن ذلك فتقول إنهم "كانوا يشعرون كمن وقعوا في فخ ولم أشعر من جانبي أنني سقراط بأية حال".
وعلى رغم وفرة ما كُتب عن سقراط وفكره ترى كالارد أنه كثيراً ما كان يُعدّ "بمقام 'الصلصة' بدلاً من أن يكون الحدث الرئيس" أو الطبق الرئيس بالأحرى، "كان سقراط يصف نفسه بالمزعج الذي يفند أفكار محاوريه الزائفة ويصف نفسه بالقابلة إذ يعينهم على توليد أفكار حقيقية بدلاً من أفكارهم، وترابط فيه التدمير والبناء، بل لعلهما توحدا وتماثلا، فالتفنيد لم يكن قط مقصوداً لذاته وإنما للمساعدة في إزالة الغشاوة عن عيون الناس ليروا العالم بصورة جديدة".
ترى كالارد أننا في غالب أفعالنا نستجيب لإملاءات وحشية "فنفعل ما يمليه علينا جسدنا في التو والحين (فننشد اللذة أو نجتنب الألم) أو تمليه الروابط الاجتماعية (فننشد العزة أو نجتنب العار)"، ولذلك نضطرب ونقع في تناقضات ونحصل على إجابات فاسدة لأهم أسئلة حياتنا، أي سؤال المعنى والغرض الذي طرحه على نفسه تولستوي.
وتكتب زالاي أن "(فتح سقراط) يثير قضية الزمن مراراً، أي مسألة الوقت المحدود المتاح لنا على الأرض، وتتفق كالارد مع سقراط في أن الفلسفة هي الاستعداد للموت، وأن مزيداً من التعمق في التفكير في ما نعرفه وما لا نعرفه يدفعنا إلى ما وراء عادتنا المعهودة (وغير المدروسة)، أي يبعدنا عن اتباع إملاءات أجسادنا وحاجاتنا الاجتماعية فلا نصبح من كائنات (الـ 15 دقيقة التالية)، بحسب تعبير كالارد.
تكتب جينيفر زالاي أن كالارد تقول إننا قد نُحبس في أفكارنا ولكن شخصاً آخر قد يكشف لنا ما نعمى عنه ويدفعنا إلى أن نرى ما كنا عنه غافلين، والبحث السقراطي بتركيزه على الحوار يكشف أن التفكير عملية جماعية فـ "في حضور الآخرين يتسنى للمرء ما لم يكن ليتسنى له في وحدته"، وتمضي كالارد حد القول أن "أعمق أمنياتنا هي أن تجري معاملتنا معاملة أشياء فكرية"، ولو أنها تعترف أن التفكير في الحياة لا يضمن توليد المعرفة التي ينشدها المرء، فقد قال سقراط إنه لم يعرف قط شيئاً عدا حقيقة أنه جاهل، وإذاً فكتاب كالارد دعوة إلى الاعتراف بقلة ما نعرفه والشروع في التفكير".
هذه الخيارات الوحيدة
وتختلف أستاذة الفلسفة في جامعة "جورج تاون" كويل كوكا مع الكتاب جملة وتفصيلاً وهذا طبيعي، فالكتاب يكاد يقصر قيمة الحياة على الفلاسفة ومن يحذو حذوهم ولا يكاد يقيم وزناً لحياة أمثالنا من عوام الناس.
وفي استعراضها للكتاب ["واشنطن بوست"، 1 فبراير (شباط) 2025]، تكتب كوكا أن كالارد تستمتع عموماً بالتناقضات، فقد دافعت من قبل عن تفكيك الزواج والخيانة الزوجية وقدحت في متعة السفر، "فلا شك في أن محبي تحطيمها للأصنام سيحبون كتابها الجديد بدفاعه المستميت عن قول سقراط إن حياة لا تخضع للتساؤل لا تستحق أن تعاش".
وتذهب كالارد إلى أن السعي الفكري الدائم إلى المعرفة والمعنى هو خير ما يمكن أن يفعله المرء بحياته، فكلنا كما يقول سقراط يجب أن نتأهب للموت بأن نكرس أنفسنا للتفلسف في الغرض من حياتنا، وتقدّر كالارد بلا أي لبس أن حياة الفلاسفة أمثال سقراط وأمثالها هي ممن لا يبالون بالموازنة بين الحياة والعمل، بل إنها تذهب إلى أنه في حين توصف كل الوفيات الباكرة بأنها وفيات سابقة لأوانها فإن هذا الوصف ينبغي أن يقتصر على وفيات من كرسوا أنفسهم للتساؤل الفكري عن الغرض من وجودهم، من أمثال صديق فيلسوف لها رحل شاباً، وتعلق كويل كوكا قائلة "إن قدراً كبيراً من الشجاعة يلزم المرء لتأليف كتاب كامل كي يقول إن خياراته للطريقة التي يعيش بها هي وحدها الخيارات ذات الشأن، وهذا عين ما تفعله كالارد".
وعلى رغم أن المرء يميل إلى تفنيد كوكا لكنه يشعر أن العالم بحاجة إلى قدر ما من تطرف كالارد في الانحياز للتفكير والتفلسف يوازن تطرف العالم في الانحياز للضحالة والاستهلاك، فلقد كانت الكلمة التي اختارها أحد قواميس اللغة الإنجليزية الراسخة باعتبارها (كلمة العام) في ديسمبر الماضي هي (brain rot) أي (العفن العقلي)، وتعني بحسب ما أفهم الأثر العقلي الناجم عن استهلاك مقاطع الفيديو غير المترابطة كما نفعل جميعاً كل يوم لساعات يعلمها الله، ولعلنا بحاجة إلى كالارد توبخنا وتتفّه من قيمة حياة "الـ15 دقيقة التالية" التي نعيشها، عسى أن ننحرف قليلاً فنفتح كتاباً نعرف منه أن سقراط الذي قضى حياته رافضاً تدوين أفكاره وناظراً إلى الشعراء بازدراء معتبراً أنهم "خطيرو الجهل"، قد قضى أيامه الأخيرة في زنزانته قبيل إعدامه يكتب الشعر.
وتذهب كالارد إلى أن السعي الفكري الدائم إلى المعرفة والمعنى هو خير ما يمكن أن يفعله المرء بحياته، فكلنا كما يقول سقراط يجب أن نتأهب للموت بأن نكرس أنفسنا للتفلسف في الغرض من حياتنا، وتقدّر كالارد بلا أي لبس أن حياة الفلاسفة أمثال سقراط وأمثالها هي ممن لا يبالون بالموازنة بين الحياة والعمل، بل إنها تذهب إلى أنه في حين توصف كل الوفيات الباكرة بأنها وفيات سابقة لأوانها فإن هذا الوصف ينبغي أن يقتصر على وفيات من كرسوا أنفسهم للتساؤل الفكري عن الغرض من وجودهم، من أمثال صديق فيلسوف لها رحل شاباً، وتعلق كويل كوكا قائلة "إن قدراً كبيراً من الشجاعة يلزم المرء لتأليف كتاب كامل كي يقول إن خياراته للطريقة التي يعيش بها هي وحدها الخيارات ذات الشأن، وهذا عين ما تفعله كالارد".
وعلى رغم أن المرء يميل إلى تفنيد كوكا لكنه يشعر أن العالم بحاجة إلى قدر ما من تطرف كالارد في الانحياز للتفكير والتفلسف يوازن تطرف العالم في الانحياز للضحالة والاستهلاك، فلقد كانت الكلمة التي اختارها أحد قواميس اللغة الإنجليزية الراسخة باعتبارها (كلمة العام) في ديسمبر الماضي هي (brain rot) أي (العفن العقلي)، وتعني بحسب ما أفهم الأثر العقلي الناجم عن استهلاك مقاطع الفيديو غير المترابطة كما نفعل جميعاً كل يوم لساعات يعلمها الله، ولعلنا بحاجة إلى كالارد توبخنا وتتفّه من قيمة حياة "الـ15 دقيقة التالية" التي نعيشها، عسى أن ننحرف قليلاً فنفتح كتاباً نعرف منه أن سقراط الذي قضى حياته رافضاً تدوين أفكاره وناظراً إلى الشعراء بازدراء معتبراً أنهم "خطيرو الجهل"، قد قضى أيامه الأخيرة في زنزانته قبيل إعدامه يكتب الشعر.
ولا أعرف بدقة ما الذي يمكن أن نخرج به من هذه الحكاية، لكنني أعرف أن كتابة الشعر فعل من أفعال قليلة للغاية يتجسد فيها حب الحياة وتأملها وعيشها والتفكير فيها معاً، دونما إفراط ولا تفريط.

‎على هامش زيارته مدينة أربيل ‎البرلمان الاوكراني: نطمح إلى علاقات اكثر عمقاً مع العراق
9-حزيران-2025
أحزاب السلطة تحاول إنقاذ حظوظها الانتخابية بـ«واحد بغداد»
4-حزيران-2025
النقل تشرع رسميا بتفعيل نظام «TIR»
4-حزيران-2025
العراق يحتاج لـ 2.500.000 وحدة سكنية
4-حزيران-2025
تحذير من ارتفاع «كارثي» من نفقات الحكومة على الرواتب
4-حزيران-2025
تقرير أمريكي يتهم فصائل عراقية بتحقيق «أرباح احتيالية»
4-حزيران-2025
أحزاب السلطة تحاول إنقاذ حظوظها الانتخابية بـ«واحد بغداد»
4-حزيران-2025
زراعة البصرة تحدد فوائد زراعة نبات العصفر
4-حزيران-2025
النقل تعلن عن إنجاز 12 خطا سككيا وتشغيل مسارات توقفت لعقود
4-حزيران-2025
نفوط خفيفة وغاز.. النفط توضح أهمية توقيع عقد بئر «كفري أ» الاستكشافية
4-حزيران-2025
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech