جون بودين
مع استقرار الأجواء في واشنطن خلال عطلة "يوم الذكرى الأميركي" Memorial Day الهادئة كالمعتاد، وبعد إقرار مجلس النواب مشروع القانون الذي وصفه دونالد ترمب بأنه "كبير وجميل"، أطلق الرئيس الأميركي أحد تصريحاته الغاضبة المعهودة على حسابه عبر موقع التواصل الاجتماعي "تروث سوشال"، لكن ما فاجأ الجميع هذه المرة هو الهدف الذي اختاره.
فغضبه المستجد لم يكن موجهاً نحو أي من أعدائه السياسيين المعهودين، لا "الديمقراطيين" الذين صوتوا بالإجماع ضد حزمة الموازنة التي دعمها، ولا قلة من الجمهوريين الذين خرجوا عن طوعه، ولا حتى المسؤولين الأمنيين الذين سعوا على مر الأعوام إلى محاسبته.
هجوم ترمب مساء الأحد كان موجهاً بصورة مباشرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فعلى رغم حديثه سابقاً عن "علاقة جيدة جداً" تجمعه ببوتين، إلا أنه انتقد بشدة سيد الكرملين، ووصفه في أحدث تصريحاته المتعلقة بالحرب الأوكرانية الروسية، بأنه "مجنون تماماً".
كتب الرئيس الأميركي على موقع "تروث سوشال": "أنه يقتل بلا داع أعداداً كبيرة من الناس، ولا أتحدث عن الجنود فقط". وأضاف: "تطلق الصواريخ والطائرات المسيرة على مدن أوكرانية من دون أي مبرر"، وتابع محذراً: "كثيراً ما قلت إن هدف بوتين هو ’السيطرة على أوكرانيا بأكملها‘، لا على جزء منها فقط. وإذا صح ذلك، فإن النهاية ستكون سقوط روسيا!".
كرر ترمب التصريحات نفسها التي كان تضمنها حديثه مع الصحافيين في ولاية نيوجيرسي يوم الأحد، قبل أن يعود في اليوم نفسه لواشنطن، وقال: "إن بوتين يقتل عدداً كبيراً من الناس. لا أدري ما الذي حدث له، فأنا أعرفه منذ زمن طويل".
كان تحول ترمب المفاجئ والحاد كاشفاً، وإن لم يكن على النحو الذي أراده. فقد تضمن منشوره ذاته انتقاداً عابراً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال فيه: "كل ما يخرج من فمه يسبب مشكلات، ومن الأجدر به أن يتوقف"، وهو ما كشف عن النية الحقيقية خلف نوبة الغضب، وهو أن الرئيس الأميركي إنما كان يداوي غروره المجروح.
وبينما أصيب غروره في مقتل، بدأ ترمب يهاجم بوتين، الزعيم الروسي الذي بات الآن علناً يدحض مزاعمه المتكررة بأنه قادر على إنهاء الحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات في غضون "24 ساعة". وبعد أربعة أشهر على توليه الرئاسة، وكان يفترض أنه مستعد لوضع حد فوري للنزاع، تصاعدت الهجمات الروسية على الأراضي الأوكرانية خلال عطلة نهاية الأسبوع، في أعنف هجوم جوي تشنه موسكو منذ اندلاع الحرب.
وعلى رغم كره الرئيس الأميركي للإقرار بأي فضل لفولوديمير زيلينسكي في توقعه الصحيح بأن القيادة الروسية لم تكن لديها نيات حقيقية لإنهاء الحرب، فإن الانفعال العاطفي لدونالد ترمب يأتي في الوقت الذي يبدو فيه أنه يدرك أن هذه المسألة يمكن أن تلحق ضرراً كبيراً بصورته كـ"صانع الصفقات" التي عمل جاهداً على الترويج لها وترسيخها.
لكن الأهم من أن تشكل هذه الهجمات تهديداً لصورة ترمب كـ"صانع صفقات" قادر على الوفاء بتعهداته، هي أنها تنسف أيضاً كثيراً من تصريحاته الأخيرة في شأن الرئيس الروسي ورغبته المفترضة في إنهاء الحرب. فترمب، المعروف بعدم تقبله الظهور بمظهر المغفل أمام حلفائه، قال عن بوتين يوم الإثنين الماضي فقط: "أنا أؤمن بأنه يريد إنهاءها".
لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رأى من جانبه أن دونالد ترمب بدأ يدرك أخيراً حقيقة موقف فلاديمير بوتين من الحرب في أوكرانيا، فقد قال ماكرون يوم الإثنين: "أعتقد أن الرئيس الأميركي بدأ يعي الآن أن بوتين كان يكذب عندما أبلغه بأنه مستعد للسلام"، مشيراً إلى ضراوة الهجمات الروسية الأخيرة كعامل حاسم في تغيير موقفه.
أضاف الرئيس الفرنسي: "لا يمكن لأحد أن يزعم الانفتاح على المفاوضات في وقت يواصل فيه شن هجمات في الميدان، إن هذا النوع من الازدواجية في الخطاب يكشف بوضوح عن زيف أي حديث عن الحوار".
والآن، تتزايد التساؤلات في العاصمة الأميركية، عما إذا كان الرئيس ترمب سيترجم كلامه إلى أفعال. فقد توعد مراراً عدة بفرض عقوبات صارمة على روسيا إذا ما واصلت غزوها لأوكرانيا من دون بلورة حل، وكان آخر تعهد له في هذا الإطار جاء في المقابلة التي أجراها معه هذا الشهر بريت باير من قناة "فوكس".
إلا أنه بعد أيام قليلة من إدلاء الرئيس ترمب بهذه التصريحات، ألمح في مؤتمر صحافي إلى أن إدارته - وفي حال لم يجر التوصل إلى اتفاق - قد "تنأى بنفسها" عن هذا الصراع، الأمر الذي قد يسمح بـ"استمرار" الحرب من دون أي تدخل من جانب الولايات المتحدة.
هذه الإشارة إلى الانكفاء، يبدو أنها لا تلقى استحساناً داخل الكونغرس الأميركي، إذ تزايد الزخم للدفع قدماً بمشروع قانون جديد يحظى بدعم الحزبين في البلاد، ويقضي بفرض حزمة إضافية من العقوبات على روسيا، بحيث وقع عليه 81 عضواً من رعاة القرار في "مجلس الشيوخ" يوم الأربعاء الماضي، وفقاً لبيان مشترك صدر عن السيناتورين ليندسي غراهام ("جمهوري") وريتشارد بلومنثال ("ديمقراطي").
مشروع القانون الذي من المنتظر أن يوضع فوراً موضع التنفيذ في حال انهيار محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا، ينص على فرض عقوبات على مجموعة واسعة من كبار الوزراء الروس، إضافة إلى الشركات والكيانات التي تتعامل مع القوات المسلحة الروسية.
وقال السيناتوران في البيان المشترك: "لقد أعلنت روسيا أنها ستقدم خلال الأيام القليلة المقبلة مسودة مقترح لوقف إطلاق النار، وسيكشف مضمون هذا المقترح عن مدى جدية موسكو في السعي إلى السلام، لكننا نخشى أنها ستواصل نهجها المعتاد". وختم البيان بالتحذير: "إذا استمر الوضع على ما هو عليه ولم يطرأ أي تغيير حقيقي، فعلى روسيا أن تستعد لرد حاسم من ’مجلس الشيوخ‘ الأميركي".