صحافة بعض البلدان العربية الشقيقة تناولت موضوع رواتب المسؤولين الكبار في الدولة العراقية. في الغالب كان التناول «شامتا»: انظروا نوعية الديمقراطية العراقية. وعندهم كل الحق في قول ما يشاؤون. لكن ما علينا ان نتوقف عنده في تلك الكتابات أمران. الأول هو المنطلق الذي تصدر منه. والثاني الواقعة المتمثلة بما كشفته صحيفة صادرة من بغداد، من ارقام خاصة برواتب المسؤولين.
هل كان المنظور الذي صدرت عنه تلك الكتابات هو الديمقراطية؟ إذا كان الأمر كذلك فان تلك الكتابات في محلها. فالديمقراطية العراقية فيها من العيوب ما يمس جوهر الديمقراطية نفسه، وما يدعو الى التشكيك في حاضرها وفي مصيرها. فلا يوجد عاقل يقول انها صحيحة ولا شبه صحيحة.
في الواقع كانت ديمقراطية العراق بمثابة وضع المحراث قبل الثورين: تفصيل ثوب الديمقراطية لبلد كان يخلو من مقومات دولة في الأمن والاقتصاد والسياسة والقانون. وهذه هي المأساة. على ذلك الجسم المكون للدولة ان ينهض ويستقيم لكي يستطيع ارتداء ثياب الديمقراطية. ومن المفترض ان تكون هذه هي المهمة الكبرى في العراق. والحقيقة انها مهمة تنوء بحملها الجبال الراسيات، فما بالك ببلد تعرض لسنوات طويلة من الحروب والبطش والعقوبات الدولية خربت كل بناه التحتية والفوقية.
وكالعادة فان معظم تلك الكتابات العربية تجاهلت كل ذلك، ليس بسبب الكسل وحده، وهو عادة مستحكمة في الفكر العربي، وانما لصدورها عن منظور مفارق أصلا للإيمان بالديمقراطية. وهكذا جرى التركيز على الفساد في رواتب ومنافع المسؤولين الكبار، وهذا حقيقي، من دون رؤية جانب جيد في القصة، يتمثل بفضح جريدة محلية لهذا الفساد، من دون ان تتعرض للقمع. وذلك يعني أن سقف الحريات في هذا البلد يزداد ارتفاعا. ولعل ذلك هو أهم منجز تحقق في الديمقراطية العراقية. فحرية الكلام والتعبير هي الرحم المنجب لما تبقى من سلسلة الديمقراطية.
وهكذا فان تلك الكتابات لا صدرت عن حرص على ديمقراطية، ولا لاحظت مقدار ما تمتعت به البلاد من حرية، وفيها صحيفة تقول ان رواتب رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان خارج الشرعية، طالما لم تحدد بقانون صادر من مجلس النواب، وأيضا طالما بقيت محاطة بالسرية، والسرية صنو الاستبداد، كما ان الشفافية صنو الديمقراطية.
ان القول بان الطبقة السياسية، او النخبة الحاكمة، فاسدة ثم كفى الله المؤمنين شر القتال، من دون تحليل أسباب ذلك الفساد، والبحث عن الطرق الكفيلة بالحد منه، هو الفساد الأعظم، ذلك انه يعني اليأس، ويعني العدمية، ويعني ان على شعوب المنطقة الاستسلام للحادث والمقسوم، وتدويره الى ما شاء الله.
إن المشكلة الكبرى في هذا الجزء من العالم تكمن في غياب القدوة وفي غياب البوصلة او الاتجاه. والكلام عن الفساد مجردا عن الايمان بالديمقراطية هو نفسه دليل على عقل مفتقد للاعتقاد بإمكانية القدوة وبجدوى المثال الديمقراطي. والواقع ان هذا هو مدار معظم الكلام في العراق وفي المنطقة. مدار النقد دون مظلة الاتجاه. مدار الضياع.