أرجوك.. لا تبدع!
ذلك شعار اتخذناه مرشدا لعملنا في إحدى المؤسسات الاعلامية. وأصله اننا كلفنا مخرجا لبرنامج تلفزيوني يعنى بمعالم بغداد. وكان البرنامج أثيرا على قلبي. كم بغداد هناك في العالم؟ حتى لو أصبحت هذه المدينة، لا سمح الله، رمادا، فهي بغداد. واحدة من مدن نادرة أجلسها التاريخ يوما على مركز العالم. تبقى خالدة ما دارت الف ليلة وليلة في الأثير. وكانت استراتيجية البرنامج الوصول الى موسوعة مصورة لمعالم المدينة. وبين مقهى ومطعم وحانة ومبنى ومتنزه وأثر وسوق وضريح وشارع لن تقل محتويات الموسوعة عن ألف معلم و..معلم. وجاءت الحلقة الأولى من البرنامج عن مقهى حسن عجمي. تظهر المقهى خالية من الزبائن بينما المذيعة تدور وتضع على كل طاولة ورقة بيضاء! سألت المخرج: ما هذا يا رجل؟ هل هذه مقهى أم قاعة امتحانات؟ قال: التغيير مطلوب..واين الابداع في تصوير المقهى كما هي.. كل المقاهي « جاي وتتن»!
• الا مقهى حسن عجمي؟
طلبت من المخرج ان يستهدي بالرحمن، ويعود الى السيناريو ويكتفي بتنفيذه.
في بداية تجربة لبرنامج آخر موضوعه الأزياء، وقفت المخرجة وهي تقول لمشاريع عارضات: نريد ان نصنع شيئا مختلفا عن « مشية القط»، انها مملة! وراحت تقلدها ساخرة. وفي الحق اني صعقت. هناك نحو مئتي دولة عضو في الأمم المتحدة، لا احسب ان واحدة منها فكرت البتة، في عرض أزياء بطريقة مختلفة عن تلك المشية المعهودة. ولم يعرف عن بلدنا طول خبرة، ومهارة، وتنوع في مجال الأزياء وانما هو فيه الى الصفر أقرب. فلماذا تريد هذه المخرجة الانتقال مما يشبه العدم الى الإبداع. الإبداع في أي مجال من المجالات مرحلة ثانية. الأولى اتقان الصنعة، أو الحرفة، ثم بعد ذلك يبدأ الإبداع. وقد لا يبدأ أبدا ويبقى المرء محترفا دون ان يكون مبدعا. فليس كل الصنايعية مبدعين.
وفي حالة عرض الأزياء كانت هناك معنا فتيات أبدين استعدادا للتدريب. اي ان علينا تعليمهن المشي، وهو في حد ذاته شغلة صعبة. ولكن صاحبتنا تريد منهن الانتقال الى الركض دون ان تكون اقدامهن قد تعلمت أصلا المشي.
وبسبب من أمثال هذين المثلين رفعنا شعار: ممنوع الإبداع. فستر الله علينا وسلكنا دروبا اعتيادية، بسيطة، موافقة لشروط الصنعة، وخالية من غبار التكلف. ورغم ما يبدو عليه المثلان اللذان ضربتهما على « التطلع الى الإبداع» من لامعقولية، احسب انهما يقعان في اتجاه غير معزول، وطريقة تفكير موجودة في ثقافتنا، ويمكن ان نجد لها اشباها ونظائر في مجالات مهمة كثيرة. وعلى رأسها « الإبداع في السياسة» الذي مردنا مردا. فهذا الأخير سار بنا على طريق طويل لم ينقطع من الوهم والأسطورة والأكذوبة. لعله يمكن القول إنه في مراحل انتقال معينة من حياة الشعوب قد تضيع البديهيات وتضمر الفطرة السليمة. وهنا تصبح مهمة الفكر هي نفض غبار الأوهام عن العقل والعودة به الى البديهيات. ومن البديهيات تبدأ اليقظة.