يسرى حسان
تعود أهمية تجربة مسرح الشمس، التي يتبناها البيت الفني للمسرح، التابع لوزارة الثقافة في مصر، إلى كونها تجربة خاصة، وجديدة على المسرح المصري، إذ تعتمد على دمج عناصر تمثيلية من أصحاب الهمم، مع غيرهم من الممثلين المحترفين، وتقديم العروض داخل مسرح الحديقة الدولية، التي تعد واحدة من أكبر وأشهر الحدائق بمصر، مما يتيح حضور أعداد كبيرة من المشاهدين، خصوصاً أن العروض تقدم بالمجان.
ولأن هذه الحديقة ترتادها الأسر المصرية، فقد حرص مسرح الشمس على تقديم مسرحيات يمكن اعتبارها مسرحيات عائلية، إذا جازت التسمية، أي إنها تناسب كل أفراد الأسرة، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، وهو أمر ليس من السهل تحقيقه، إذ يتطلب ذلك قدراً من الوعي بطبيعة هذا النوع من المسرح، فكيف تقدم عرضاً بهذه الكيفية، لجمهور لا بد من الاعتراف بأن معظمه جاء بالصدفة، إذ يفتح المسرح أبوابه لرواد الحديقة بالمجان، فالغرض هنا ليس تحقيق مكاسب مالية، لكنه يتلخص في أمرين: أولهما إشراك هؤلاء الذين يعانون بعض الإعاقات الجسدية أو الذهنية في العروض المسرحية بما لا يخل بمستوى العرض، حيث يخضع هؤلاء لدورات تدريبية تؤهلهم للمشاركة في العروض المسرحية، كل بحسب إمكاناته وإعاقته، أما الأمر الآخر فهو الذهاب بالمسرح إلى حيث يوجد الناس، وهما أمران في غاية الأهمية.
قدم مسرح الشمس عروضاً لافتة، سواء على يد مديرته السابقة الفنانة وفاء الحكيم أو على يد مديره الحالي المخرج محمد متولي، ولعب دوراً مهماً في تبني مواهب أصحاب الهمم، وكذلك المتعافون من أمراض خطرة، وصقل تجاربهم، وتقديمهم في العروض المسرحية إلى جانب المحترفين، رغم الإمكانات المادية المحدودة التي توفرها له وزارة الثقافة.
إطار فانتازي
في إطلالته الجديدة قدم مسرح الشمس، عرض "أسطورة أرض الفراولة"، كتابة وأشعار سامح عثمان، إخراج علي عثمان، وهو من العروض التي لفتت إليها الأنظار بشدة، لجدته وتكامل عناصره، وحرص صناعه على تقديم عمل فيه من المتعة والتسلية والرسالة الفكرية، مما يدحض الخفة التي يتعامل بها البعض مع هذه النوعية من العروض.
يدور العرض في إطار فانتازي، حول سيدة أنجبت ولداً فاختطفته حدأة وأثناء طيرانها به، سقط قلبه في بلدة يقطنها مزارعون مسالمون، وأنبت شجرة عملاقة تبث الحب بين أهالي هذه البلدة التي سميت "أرض الفراولة"، وعاش أهلها متحابين في ظل هذه الشجرة التي جلبت عليهم رزقاً وفيراً، إلى أن طمع في الأرض أحد الملوك الأشرار، يقوم بدوره الفنان أحمد مختار، فاستعان بغراب، حسام حمدي، لتسميم هذه الشجرة لتبث الكراهية بدلاً من الحب، ويستطيع هو احتلال البلدة والسيطرة على ناسها ونهب خيرات أرضهم، وينجح في خطته، فتدب الخلافات بين أهالي البلدة، وبعد أن كانوا أسرة واحدة، صار كل منهم في جانب، موجهاً سهام الكراهية والعداء لغيره من أهل بلدته، لكن حكيمها، ويدعى طرح (ناصر سيف) يرسل شاباً وفتاة، ود وحب (شيماء عبدالناصر وماهر محمود) في طلب الترياق من النورس الأبيض، سمير بدير، وفي طريقهما يتعرض الشابان لإغراءات عديدة، مثل المال والسلطة وغيرها، لكن حكيم البلدة كان قد حذرهما منها، ولذلك يواصلان رحلتهما ويعودان بالترياق إلى أرض الفراولة التي تستعيد طبيعتها الخيرة ويعود الحب بين أهلها، ويتعاونون جميعاً على طرد الملك مغتصب الأرض.
مستويات متعددة
تبدو الفكرة بسيطة ولكن مستوياتها تتعدد، فهي حكاية مسلية عن الحب والتكاتف والخير وما إلى ذلك وهي أيضاً، في الوقت نفسه تشير إلى أطماع القوى العظمى في البلاد الأخرى صاحبة الثروات الطبيعية، أو الموقع الجغرافي المهم، وكان من الذكاء الإسقاط على الأحداث الجارية، ومنها فكرة تهجير أهالي غزة، واعتبار أرض الفراولة التي ترمز إلى مصر، خطاً أحمر لا يجب الاقتراب منه، وذلك في صياغة فنية بعيداً من الشعارات الحماسية.
نجح الكاتب سامح عثمان في صياغة نص مسرحي، لا يناسب طبيعة الفرقة فحسب، بل يتعامل مع هذه الفئة من أصحاب الإعاقات بعيداً من الخفة أو التسطيح، وأفرد مساحة واسعة للخيال، وابتعد عن التعامل الساذج مع مثل هذه الموضوعات الموجهة للعائلة عموماً وليس للطفل فحسب، وهو كاتب له عديد النصوص التجريبية المهمة، يمكن القول إنه استفاد من خبراته في كتابة نص تتعدد مستوياته، مراعياً وضعية العناصر التمثيلية التي ستشارك فيه، وذلك كله من دون أن ينزلق إلى التمييز بين محترف وصاحب إعاقة، سعياً إلى كسب تعاطف الجمهور، أو أي شيء من هذا القبيل.
أما المخرج علي عثمان، وهي تجربته الأولى في مسرح الدولة، إذ قدم من قبل عدة تجارب في مسرح الأقاليم، فقد نجح في دمج أصحاب الهمم مع غيرهم من الممثلين المحترفين، من دون أن تحدث ارتباكات تشهدها هذه النوعية من العروض، وحرص على صياغة صورة مسرحية على قدر عال من الثراء، تمثلت في ديكور صممه حمدي عطية، مزج فيه بين الواقعي والتعبيري، تصدرته في العمق شجرة الحب، لتكون هي المهيمنة على المشهد، واكتفى ببعض الموتيفات لتغيير المناظر، بصورة سلسة من دون أن يضطر مصمم الإضاءة محمد المأموني إلى اللجوء للإعتام، وانشغل أكثر في تشكيل إضاءته بشكل مبهج يبرز عناصر الديكور ويخدم الانتقالات من مكان إلى آخر، أو من زمن إلى آخر.
أيضاً لعبت الملابس التي صممتها هبة عبدالحميد، دوراً في تشكيل الصورة البصرية للعرض، سواء من حيث ألوانها أو من حيث مناسبتها للشخصيات، البشرية أو الحيوانية التي احتشد بها العرض. دار العرض في إطار غنائي استعراضي، وضع الموسيقى زياد هجرس وصمم الرقصات محمد ميزو، وكلاهما من العناصر البارزة في المسرح المصري الآن.
ضم العرض عدداً كبيراً من الممثلين، سواء من المحترفين أو من ذوي الهمم، منهم: حسام حمدي، فهد سعيد، مي زويد، شهد محمود، إيمان نبيل، محسن صادق، وليد سامي، نهى أشرف، سحر عبدالعظيم، بدر محمد، كريم سعد، يمنى محمود، تومي، حسن سامح، نورهان سعيد، عبدالله شريف، نور عصام، هند، مايا عصام، أمثل محمود، وميرا وائل.
أسطورة أرض الفراولة، عرض على درجة عالية من النضج والاحترافية، يعرف مع من يتعامل، وإلى من يتوجه، جمع بين التمثيل والغناء والاستعراض، في توليفة مسرحية تمتع وتسلي، وتبعث برسائل توقظ وعي الكبار والصغار معاً، فكلاهما في حاجة إلى إيقاظ الوعي، في لحظة تاريخية تبدو فارقة في مصائرنا جميعاً.