طالب كاظم
في تلك الاثناء شاهدنا جنودا يقبلون علينا من جهة رانية، وهم يلوحون براية بيضاء، فيما بعد اخبرونا بان الاكراد وعدوهم بالسماح لهم بالذهاب الى اهاليهم بشرط تسليم اسلحتهم، فتخلى الجنود عن اسلحتهم، لا حل بين ايديهم سوى الرضوخ، لذا سمح لهم بالمغادرة باستثناء ضباط الاستخبارات والتوجيه السياسي والامرين، اذ تم اعتقالهم اما ضباط الاستخبارات فتم اعدامهم في ثكناتهم العسكرية، هذه المعلومات نقلت الى القائد الذي امر بتحصين مقر قيادة الفرقة بالحراسات المشددة وهي المهمة التي سيقوم بها فوج المغاوير، لأننا بلا اجهزة لاسلكية وغير مرتبطين بمهمة محددة، تلقينا امرا مباشرا من امر فوج المغاوير بواجب الحراسة في مقلع للحجر على جانب سفح الجبل الذي يشرف على الوادي .
كنا خمسة جنود من مخابري الفوج الاحتياط، انحدرنا الى الحفرة في الساعة السادسة مساء ذلك اليوم، كان الجو مظلما وممطرا كان الضباب كثيفا وهو يتصاعد عبر الوادي ، كان يوما شديد البرودة ، انصب المطر كما لو ان السماء فتحت علينا الميازيب التي صبت المياه فوقنا كالطوفان، تسمرنا في تلك الحفرة بينما مياه المطر تغمر احذيتنا، كنا نتجمد من البرد فيما القلق يعصف بتفكيرنا، لم يكن هناك سقف يصد المطر، لم يطل بنا الامر حين اتفقنا على مغادرة الحفرة، كنا سنقبل بالموت على البقاء وسط ذلك العراء ، انسحبنا دون علم الامر او اي شخص اخر، دخلنا حوض عجلة الايفا، اسرعنا بخلع ملابسنا التي المبتلة وتدثرنا ببطانيات ليست بافضل حالا من ارديتنا، في وقت مبكر، اخبرونا بان رانية باتت تحت سيطرة البيش مركة والانصار الشيوعيين وهم يتقدمون باتجاه مواقعنا على جبل هيبت سلطان،
كانت الساعة الرابعة عصرا حينما هجم علينا الاكراد من الجانب الذي يشرف على كوي سنجق والاخر الذي يشرف على حوض رانية بينما جانب الوادي ظل مفتوحا امامنا، قاد النقيب ممدوح امرفوج مغاوير الفرقة 44 هجوما بمجموعة قتالية بحدود 50 جنديا ضد المجموعة الكردية المسلحة الذين هربوا من امامه كنت ارى المشهد بكل تفاصيله، ساندته المدرعة بيردم برشاشها الثقيل، لاذ الاكراد باستثناء اربعة مقاتلين كان احدهم جريحا اسرهم النقيب وجنوده، في الهجوم قتل جنديين واصيب ضابط برتبة ملازم ثان بحروح شديدة، بسبب اللغط والزعيق لم نعرف ما الذي حدث للاكراد الاربعة لانني لم ارهم بعد ذلك، الساعة السادسة مساء ساد الهدوء ، تلقينا امرا صارما بتدمير اجهزتنا اللاسلكية وكل شيء ممكن يفيد القوة المعادية، رماة الهاونات القوا بركائز سلاحهم في الوادي العميق بينما القيت السبطانات في الجانب الاخر من الجبل، كما اعطبت العجلات العسكرية والمدرعات والدبابات T62 تم تخريب كل شيء، شاهدت مخابر محطة جوال القائد وهو يحطم جهاز الراكال 931 والمجفرة، دمرت وخربت كل المعدات، لم يعد هناك سوى السلاح الشخصي ومخازن ذخيرة بنادق الكلاشينكوف واقنعة الوقاية من الحرب الكيمياوية، بعد ان انجزت عملية تخريب المعدات والذخيرة الثقيلة، في الساعة السابعة ليلا تلقينا الاوامر بإخلاء الموقع والمسير بالرتل المنفرد، واحدا خلف الاخر، عبر الوادي يتقدمنا الدليل وهو جندي من اهالي كركوك، اخبر ضابط ركن الفرقة بانه يعرف الطريق الى طقطق عبر الوادي كونه سلك هذا الطريق من قبل.
في الساعة السابعة مساء، كانت السماء غائمة، كان الضباب كثيفا حين هبطنا الى الوادي في ارتال منفردة خلف رتل مقر قيادة الفرقة 44 في طريقنا عبر العماء الى طقطق، في محاولة من قيادة فق 44 لكي لا نقع اسرى في قبضة الاكراد، مرت ثلاث ساعات ونحن نخوض في الوحل والطين اللزج الذي امسك ببساطيلنا، وسط الظلام والصمت عبرنا واد ضيق، اثناء المسير سمعنا صوتا يتحدث بالكردية، لم افهم ما يقوله ولكنه كان صوتا واضحا، كانه يقول من هناك ؟ او من انتم ؟ كانت همسات الجنود خافتة تكاد لا تسمع ولكن وسط ذلك الصمت يمكنك سماع صوت الابرة حين تسقط، كنت في الرتل الاخير، بل كنت الجندي الاخير في اخر مجموعة تقتفي اثر الدليل، انبطح الجميع على الصخور، فلم اعد ارى اي شيء امامي، انا الاخر انبطحت، كان صوت الرجل واضحا وقريبا جدا، قلت باني الشخص الذي سيتعرض للرصاص فيما لو اطلق النيران علينا، مرت عليّ دقيقة او اكثر بقليل وانا منبطح على حجر بارد، لم احاول فيها رفع راسي لمعرفة ما يحدث حولي، في تلك اللحظة لم اعد اسمع همهمات جماعتي ولا اصواتهم الخافتة، حينها رفعت راسي فلم ار امامي أي جندي، كنت وحيدا تماما، فمجموعتي غادرت المكان زحفا وتركوني خلفهم، شعرت بالإحباط والقلق مما سيحدث لي الا اني لم اشعر بالخوف، فبندقيتي الكلاشينكوف معي واحمل 120 طلقة في 4 مخازن، كنت حذرا من هجوم الذئاب او الدببة، شاهدت لأول مرة في حياتي، دبا مع دياسمه في وادي الزاب الأعلى على الحدود مع تركيا، وتحديدا في بيبو حين خدمت هناك عام 1979، تقدمت احاول ان اقتفي اثر الجنود بعد ان تبدد الضباب بينما النجوم اللامعة تتألق في سماء صافية، كنت انظر بإمعان في الممرات التي عكست لمعان النجوم، لمحت اثر خطوات الجنود في الطين والوحل بينما المكان الذي لم يمروا عليه كان لامعا ، اقتفيت الاثر لمسافة بدت طويلة، حتى سمعت اصوات الجنود بين الاشجار والادغال الكثيفة، لم اتردد حين توجهت اليهم بصوت عال اسألهم ان كانوا جنودا في فرقة المشاة 44، سمعت احدهم يقول لي من انت، فقلت له انا جندي مخابر في فوج مغاوير فق 44، قال لي اقترب ولا تحدث صوتا نحن جماعتك !
لم تعد هناك قيادة ولا دليل يقود الجنود الى النجاة، كان الرتل قد تشتت وكل واحد يخبر الاخرين بانه وحده الذي يعرف طريق النجاة ولكننا كنا ننقاد الى الشخص الذي امامنا وهو بدوره يسير خلف الذي امامه حتى اعترض طريقنا سيل قوي الجريان لم يكن عميقا ولكن تياره القوي جدا كان يستطيع ان يجرف سيارة بقوة جريانه، وهو الامر الذي حدث مع المخابر محمد من اهالي مدينة الثورة صاحب محل الكهربائيات، اذ جرفته المياه وفقدنا اثره ، احد الجنود طلب من طوال القامة والذين يتمتعون بقوة بدنية عالية ان يساعدوه في عبور النهر بتياره الكاسح، تقدم بعض الجنود وكنت احدهم، طلب منا خلع النطاق وتشكيل سلسلة متصلة بربطها ببعض، امسك هو براس السلسلة ونزل الى النهر وهبط بعده الجندي الثاني، وهو يتقدم الى الجهة الثانية كان يصارع التيار القوي ، كما نزل الجندي الثالث ونزلت انا و جندي اخر حتى شكلنا جسرا بشريا اتصل بجانبي النهر وهو الامر الذي مكن الجنود من التمسك بنا اثناء عبورهم، كنا نتجمد حد الموت ونحن نصارع التيار السيل الجارف، لم يطل الامر كثيرا حتى عبر اخر جندي وعبرنا نحن الواحد بعد الاخر، كانت الساعة بحدود الرابعة فجرا ، حين وجدنا غرفة مبنية بالحجر، بعد ان ارشدنا اليها بصيص الضوء حيث وجدنا الجنود الذين اوقدوا نارا، اسرعنا باحتضان تلك النيران، كنا نتجمد بسبب البرد الشديد والتعب، القلق من ان يداهمنا ضوء الفجر فيرانا الاكراد ، اسرعنا بمغادرة الغرفة، نخوض في الطين ، بساطيلنا انغرزت في الوحل ولم يعد باستطاعتنا سحبها ، انتزعنا اقدامنا العارية وخضنا في الطين المتجمد حفاة الاقدام ، صديقي مخابر جوال قائد الفرقة اخبرني بانه يشعر بالاعياء وسيغمى عليه، اسندته بذراعي واخذت منه بندقيته اخفف حمله، كان الفجر قد بدا بالطلوع بينما ضوء الشمس ينتشر، حينها نظرت حولي فاكتشفت ان هذا المكان قد مررت به في الامس، كانت كوي سنجق امامي تماما، ادركت باننا كنا ندور في حلقة مفرغة، بدأت في الساعة السابعة مساء الليلة الماضية حتى الساعة السادسة صباحا! حيث خضنا في الطين والقلق والخوف والتعب والبرد، كنا ندور حول كوي سنجق نفسها في حلقة مفرغة، في تلك اللحظة سمعنا صيحات الاكراد : سلم كاكا سلم كاكا !!
لم يكن هناك ثمة امل للجنود الاقرب من الهروب فسلموا انفسهم للأكراد بينما نحن وكنا خمسة جنود، تمكنا من الافلات بالنزول الى وادي عميق، كان معنا مدير الادارة والميرة في الفرقة وهو ضابط برتبة عقيد من المحاربين القدامى، سقط على الارض بلا حراك، حين وصلنا اليه كان قد فارق الحياة، استمر مسيرنا عبر الاودية لستة ساعات اخرى .
كان الهدوء يسود المكان ، حين سمعنا صوت احدهم وهو يكلمنا بلكنة جنوبية: اخوان لا تخافون احنة اخوتكم الانصار مجموعة 90 نريد سلامتكم ترة صدام سقط وانتهى نظام البعثيين !
لم يعد امامنا اي حل، اخبرت جماعتي باني سأسلم بندقيتي وطلبت منهم ان احمل البنادق اليه وان يظلوا في اماكنهم، ذهبت اليه بالبنادق ، اخبرته باننا لم نرم بها أي رصاصة وبانها كانت كعكاز نتوكأ عليه احسن مما هي بنادق للقتال، ضحك هو كما ضحكت انا، قال لي رافقني، على بعد خطوات ادركت باننا كنا على بعد خطوات من الطريق الرئيسي الذي يربط اربيل بكوي سنجق، لمحت سيارة لاندكروز بيكاب عليها رشاش ثقيل ديمتروف، ذهبت معه الى السيارة حيث ناولني ربطة خبز ركاك و علبة سجائر وعلبة كبريت، اشار بيده الى ربيئة ليست بعيدة ، قال يمكنكم المبيت هناك حتى الصباح ومواصلة طريقكم الى اربيل ومنها الى الموصل للذهاب الى مدنكم صافحني وانطلق به سائق عجلة اللاندكروز مسرعا .
ذهبنا الى الربية الفارغة وجدنا بداخلها بطانيات عسكرية ممزقة، تمددنا على الارض كنا انصاف اموات ونصف احياء حفاة بأقدامنا المتورمة، منعنا الالم من النوم .