غرائب واختفاءات الموسيقي الفرنسي رافيل في سنواته الأخيرة
2-أيار-2024

إبراهيم العريس
يخبرنا الكاتب الروائي الفرنسي جان إيتشينوز في حديثه عن كتابه "رافيل" بأنه بعدما أخفق طويلاً في تكريس كتاب سيرة للموسيقي رافيل، وصل إلى غايته حين مزج بين هذا الأخير وبين هواجس ذاته وهمومها من خلال نص لم يعُد سيرة موسيقي فقط ولا سيرة ذاتية لكاتب هو إيتشينوز نفسه فقط ولا رواية متخيلة فقط، بل مزيجاً من ذلك كله
يمكن بكل بساطة اعتبار الكاتب الروائي الفرنسي جان إيتشينوز واحداً من أبرز كتاب الأجيال الأخيرة من روائيي بلاده في الأقل منذ فوز روايته "سوف أغادر" (1999) بجائزة "غونكور" الأدبية المرموقة في فرنسا، بل حتى من قبل ذلك حين أصدر روايته "بحيرة" التي تعتبر ظاهرة استثنائية في نجاحها وطغيان شهرتها على شهرة أي كتاب آخر من كتبه. وحتى لئن كان ثمة دائماً في أدب إيتشينوز قدراً كبيراً من كتابة الذات في محاولة منه لوضع ما سيمكن اعتباره سيرة ذاتية له، فإنه حين بلغ الستينيات من عمره أدرك أنه لا يزال في حاجة إلى أن يكتب ذاته بصورة أو بأخرى، أو بالأحرى من خلال قناع أو آخر. وهكذا ظهر عام 2005 واحد من كتبه الأكثر ذاتية في مساره، وهو اعتبر كذلك حتى إن كان يحمل عنواناً هو "رافيل"، مما يعني أنه إنما قدم هنا صورة أدبية لموسيقيه الأثير الفرنسي موريس رافيل الشهير، خصوصاً بمقطوعته "بوليرو" والشهير كذلك بحكاية كتابته تلك المقطوعة لحساب الراقصة الأسطورية إيدا روبنشتاين عند منعطف الربع الأول من القرن الـ20، وهي الحكاية التي سنرويها وإن عرضاً بعد سطور.
بين الموسيقي والكاتب
فما يهمنا قبل ذلك هنا هو أن نستعيد حكاية إيتشينوز مع رافيل، فالكاتب المعاصر لنا كان قبل ذلك قد حاول مرتين أن يكتب سيرة لصاحب "بوليرو"، ولكنه كان عليه في نهاية الأمر أن يعترف بإخفاقه، خصوصاً أنه في كل مرة كان يجلس ليكتب النص يجد الموسيقي مجرد دخيل عليه وعلى نصه، لا يمكنه إلا أن يكون مجرد كومبارس لا أهمية له. ثم ذات يوم طفح الكيل به وكان ذلك حين قرأ بالصدفة سيرة كتبها مواطنه مارسيل مارنا لرافيل، فأسقط بيده وقد أدرك أن "ما من أحد سيهتم بأية سيرة من ذلك النوع ستكتب لرافيل بعد ذلك الكتاب" بحسب ما سيقول بنفسه. وعلى ذلك النحو أسقط مشروعه نهائياً "لكني رحت أفكر وأستعرض تلك السنوات الأخيرة من حياة رافيل التي عاشها بعد جولته الأميركية الكبرى عام 1928 وموته في 1937. وهكذا صرخت ’وجدتها(!) وشرعت أكتب بسرعة متعبة إنما لذيذة تلك المئات القليلة من الصفحات التي تألف منها الكتاب في نهاية الأمر‘". والسؤال الحقيقي هو هنا، ما الذي وجده إيتشينوز في تلك المرحلة الأخيرة من حياة رافيل حتى استوقفه وحركه وألهمه ما سيعتبره هو النص الأكثر ذاتية من بين كل ما كتب؟. هنا تكمن الحكاية كلها بالنظر إلى أن صاحب هذا الكتاب قال لنا بنفسه وبعبارات لا تلف ولا تدور "بقدر ما وجدت رافيل الحقيقي وتمكنت من أن ألقي أضواء كاشفة على رافيل، وجدت نفسي. وجدتني أجابه تلك الأسئلة التي لم أتوقف عن طرحها على ذاتي منذ كنت مراهقاً. ووجدت الأجوبة التي كانت دائماً مرمية في طريقي فألتقطها لأبني كتاباً مارست فيه ألعابي الفنية وأنا أدمج في مخيلتي بيني وبين موسيقاي المفضلة".
والحقيقة أن تلك اللعبة الفنية لم تكن جديدة على إيتشينوز، بل إن جوهر أسلوبه الكتابي يقوم دائماً عليها، إذ إن ذاته تكاد تكون دائمة الحضور ولكن دائماً من خلال شخصيات متخيلة تشغل مكاناً أساسياً في رواياته وبالكاد يمكن لقارئه أن يربط وجودها على تفاوت كثافته، بوجوده الشخصي حتى ولا كوسيط بين وجوده الحقيقي، والمتخيل في الوقت نفسه، ووجود الشخصيات التي لم توجد إلا لتقوم بدورها المرسوم لها في الرواية. والحال أن هذا البعد الأخير يجعلنا نتساءل دائماً عما إذا كان يصح أن ننظر إلى الشخصيات المتخيلة بقلم إيتشينوز على أن الواحدة منها في حقيقتها أنا/ آخر للكاتب نفسه؟، وهذا السؤال لئن كان قد طرح دائماً بقدر ما من التردد والخجل في أعمال أخرى لهذا الكاتب، من "سوف أغادر" إلى "خط ميريديان غرينويتش" ومن "شيروكي" الفائزة عام 1983 بجائزة "ميديسيس" إلى "الشقراوات الكبيرات" الفائزة في 1995 بجائزة ديسمبر....، فإن الأمر يختلف حقاً في كتاب "رافيل". فهنا، حتى إن لم يكن ثمة حضور مباشر لإيتشينوز كشخصية، في ظل الحضور الطاغي لرافيل، لا شك في أن حضور هذا الأخير سيبدو في لحظات كثيرة وكأنه مجرد صدى لحضور الكاتب إذ قد يحدث في مواقف كثيرة أن يرتبك القارئ المطلع على روايات إيتشينوز السابقة ويتساءل مع من ترى هذا الكاتب يتعامل الآن؟ ومن هو رافيل حقاً هنا؟ وألا يمكن القول في النهاية إن حتى الرحلة المركزية التي قام بها رافيل في مستهل العقد الأخير من حياته إلى العالم الجديد، إنما هي صدى ملموس لتلك الجولات الأميركية وغير الأميركية التي أوصلت إيتشينوز إلى تلك العوالم نفسها بحيث تبدو النقاشات التي يخوضها الكاتب هنا نوعاً من الصدى الذي "يستعيده" رافيل بصورة استباقية لما قاله وسمعه في ذلك العالم الجديد؟
بعد كل شيء لا بد لنا من أن نقول إننا نبدو الآن وكأننا نغوص في سيرة مزدوجة ورؤى فنية مزدوجة وتطوير للرؤى الفنية مزدوج. يعيدنا ولكن بصورة أكثر حداثة هذه المرة إلى عبارة فلوبير الشهيرة "مدام بوفاري هي أنا"، بل حتى إلى ما قاله سيد الرواية "الموضوعية" مؤسس الرواية الفرنسية الجديدة آلان روب غرييه، بعد أن جعلنا نعتقد ثلث قرن بأنه الكاتب الموضوعي بامتياز وراوي الأشياء التي لا روح لها، أطل علينا، كما أشرنا مرات عدة في هذه الزاوية بالذات ولمناسبات متنوعة، عبر ما قاله حين أخبرنا في كتاب ذكريات أخير له بأنه لم يكتب في نهاية الأمر إلا عن ذاته. وهكذا هنا أيضاً، ها هو جان إيتشنوز المولود عام 1947، يخبرنا في حديثه عن كتابه "رافيل" بأنه بعدما أخفق طويلاً في تكريس كتاب سيرة لرافيل، وصل إلى غايته حين مزج بين هذا الأخير وبين هواجس ذاته وهمومها من خلال نص لم يعُد سيرة موسيقي فقط ولا سيرة ذاتية لكاتب هو إيتشينوز نفسه فقط ولا رواية متخيلة فقط، بل مزيجاً من ذلك كله لئن كان قد أضاف إلى سيرة رافيل نصاً تجديدياً كبيراً يكشف في طريقه عن ذلك السحر الذي مارسته "أميركا" على مبدعي العالم وهو السحر نفسه الذي مارسته أميركا عليه، فإنه أضاف إلى متن إيتشينوز الأدبي الذي قد يزيد في كثافة تأثره بالأدب الأميركي عموماً عما مارسه هذا الأدب على أي روائي فرنسي من جيله، مما سيغنيه لاحقاً، ونظرياً في الأقل لينصرف حقاً إلى كتابة سيرته الذاتية.
ومهما يكن من أمر هنا، يبقى أن تركيز إيتشينوز على الأعوام الـ10 الأخيرة من حياة رافيل حرمنا من تلك الحكاية التي سبقت ذلك وتتعلق بكتابته "بوليرو" الشهير. وهي حكاية لو وردت في كتاب إيتشينوز لكانت أطرف ما فيه. وفحوى الحكاية أن الراقصة الأسطورية في عشرينيات القرن الـ20 التي كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس في زمانها قصدت رافيل يوماً طالبة منه أن يكتب خصيصاً لها قطعة راقصة على النمط الإسباني، وصارحته بأنها لا يمكنها أن تدفع له ما يستحقه بالفعل من أجر، فضحك وقبِل شرط ألا يتألف "بوليرو" إلا من سلم موسيقي واحد يتكرر مرات ومرات طوال ما يقارب ثلث ساعة هو الزمن المنطقي لأية رقصة فردية. وهو حقق ذلك بالفعل مشتغلاً على التوزيع المتصاعد بين الآلات الإفرادية والجماعية والمجموعات الأوركسترالية وصولاً إلى أعظم كريشيندو توصل إليه موسيقي في التاريخ، إذا استثنينا الحركة الختامية من سيمفونية بييتهوفن التاسعة حين ينشد كورال رائع "نشيد إلى الفرح" الذي تحول ليصبح نشيد الوحدة الأوروبية عند مفتتح الألفية الثالثة. وإذا كان هذا النشيد يعتبر بالإجماع أعظم قطعة موسيقية أنتجتها العبقرية الإنسانية، فإن كثراً يضعون "بوليرو" في مرتبة تالية لمرتبته...

بغداد ترسل 443 مليار دينار إلى اربيل
15-أيار-2024
بكلفة (200) مليار دينار.. محافظة بغداد تعلن عن خطة لتطوير مناطق شرقي القناة
15-أيار-2024
الداخلية تعلن افتتاح منظومة البطاقة الوطنية في السفارات العراقية
15-أيار-2024
رؤساء وأعضاء ثلاث لجان في الديوانية يواجهون الاستقدام القضائي
15-أيار-2024
وزارة العدل تعلن شمول 400 طفل وامرأة بالعفو الخاص
15-أيار-2024
بعد إنحسار الدور الأمريكي.. الصين تستخدم نفوذها للإستحواذ على صناعة النفط العراقية
15-أيار-2024
السوداني يؤكد انجاز ميناء الفاو الكبير في 2025
15-أيار-2024
كهرباء الرصافة: قسم السلامة والتفتيش الهندسي ينفذ جولة لتنفيذ اجراءات السلامة للعاملين على الشبكة الكهربائية
15-أيار-2024
انهيار المؤسسات وفوضى السلاح يفاقمان ظاهرة الهجرة غير النظامية في ليبيا
15-أيار-2024
الدوري السعودي: النصر يخطط لكسر السلسلة التاريخية للهلال
15-أيار-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech