فنّ أم حكايات على أرصفة البطالة؟
29-نيسان-2023
عباس سرحان
اندفعت فتاة سيئة السمعة تطاردها دورية شرطة، الى فناء بيت في نهاية الزقاق كان بابه مواربا، وأوصدت الباب خلفها.
ظلت دورية الشرطة التي كانت تطاردها تحوم حول الدار جيئة وذهابا، ما منع الفتاة من مغادرتها خشية الوقوع في قبضة الدورية.
استدارت تتفحص بحذر ما حولها من فناء الدار وحجراتها ونوافذها القديمة.
بدا المنزل بسيطا بجدرانه وأثاثه ونافورة الماء التي توسطت باحته، وذا أثار فضول الفتاة ومخاوفها معا، فقد ظنته للوهلة الأولى منزلا خاليا مهجورا.
لكن نعلا ممزقا اصطف زوجاه أمام إحدى الأبواب المفتوحة على الباحة أمامها جعلها تظن أن الدار تعود لسكّير متهتك.
لا أدري لماذا ظنت ذلك ساعتها. ولكن ربما لأنها صادفت الكثير من صنف هؤلاء البشر منذ سنوات، وهم خطرون ومتجاسرون وهي تحمل في أعماقها خوفا شديدا من هذا النوع من البشر.
غير أن صوتا هادئا ناداها من خلف الباب" ادخلي يا ابنتي، واعتبري البيت بيتك وأنا كأبيك"!
وعلى حذر وبخطى مرتعشة تفحصت مصدر الصوت من نافذة مغطاة بغير قليل من الغبار، فبان لها رجل ستيني يرتدي زيا حوزويا، وبجنبه عمّة بيضاء تشير الى ان صاحبها شيخ معمّم، كان مستقبلا القبلة جالسا على سجادة للصلاة من الواضح انه فرغ منها توا.
وتستمر احداث هذا الفيلم لنحو ساعة ونصف يدور فيها صراع بين قيم الشيخ الفاضلة ومحاولات الفتاة التي أجهدت نفسها لإغوائه وإثبات أنه سيء كالآخرين ممن صادفتهم.
وفي النهاية تنتصر قيم الشيخ على قيم التهتك والسقوط وينتصر الشيخ للفتاة من نفسها وينتشلها من واقع انساقت اليه تحت قسوة الظروف وضغط العناصر الفاسدة في المجتمع.
كم من رسالة جميلة بعثها هذا الفيلم الايراني لمشاهديه، وكم فكّ من عقد وأجاب عن تساؤلات في نفوس الكثير من الناس وخصوصا الشباب ممن تستهويهم الحياة المادية ولا يجدون القدرة للخروج من حبائلها وشباكها؟.
ربما يشكك أحدهم بحدوث قصة الفيلم على أرض الواقع. لكنها في النهاية معالجة درامية ناجحة قاربت بين أحداث يمكن أن تقع بنسبة احتمال عالية، ووجهتها بدفعة من الايجابية تجعل كل من يشاهد الفيلم يقتطف منه عبرة وحكمة وهو المطلوب.
فإن لم يعالج العمل الدرامي مشكلة اجتماعية أو يبعث برسائل اطمئنان للمتلقين، فليس من الانصاف أن يسمى فنّأ، بل يجب أن يسمى تهريجا أو حكايات خالية من المعاني يثرثر بها مجموعة عاطلين عن العمل على أرصفة البطالة.
بالتأكيد لست ناقدا فنيا أو أدبيا. لكن يمكن أن أصف نفسي بأنني متابع جيد ولي وجهة نظر فيما أشاهده أمامي، كما أني أحرص وأغار على قيم المجتمع الذي أعيش فيه، وفيه أبنائي وأبناء جيراني وأقربائي وأصدقائي وهؤلاء وغيرهم من ابناء بلدي يشكلون وطنا نعيش فيه متأثرين سلبا أو أيجابا.
ومن أجل هذا حذفتُ عدة قنوات عراقية محلية من جهاز الاستقبال لأنها تبث سموما وتهريجا وتنفق مبالغ طائلة على انتاج محتويات هابطة تسميها مسلسلات أو برامج اجتماعية تسيء فيها للذوق العام.
وهي لا تحمل أدنى قيمة اجتماعية ولا تبعث لمشاهديها إلا رسائل منحطة تفتقر الى الذوق والخلق وحسن السلوك.
فمثلا شاهد كثيرون "مسلسلا" مثله ممثلون عراقيون شباب مؤخرا، وهو بعيد كل البعد عن البيئة الاجتماعية العراقية، وتدور احداثه الطويلة المملة حول صراع الفتيات على شاب تحاول كل منهن الظفر بقلبه!.
انتهت الموضوعات والقصص الانسانية ولم يجد منتجو هذا العمل البائس الا هذه القصة الخيالية لينفقوا عليها اموالا طائلة من اجل تسويقها كعمل درامي.
والمصيبة ليس فقط في تفاهة مضمون قصة هذا المسلسل ومضامينه السيئة، بل فيما تتضمنه حواراته من الفاظ نابيه وسوء ادب وتبادل للشتائم والخيانات دون ان تكون هناك معادلات اخلاقية تجعل من هذا الفعل مذموما مكروها.
وليس هذا العمل الوحيد، فقنوات أخرى معروفة لديها مجموعة من "الفنانين" اعتادت على تقديمهم في شهر رمضان بأعمال ليست ناضجة، إنما تقوم على استهداف قيم المجتمع او الهزؤ ببعض طبقاته والنيل من اعرافه وتقاليده دون ان تقدم بديلا ايجابيا لما تنتقده.
غايتها فقط ان تجعل بعضا من الناس يسخرون من بعض آخر بسبب لهجتهم أو طبيعة حياتهم أو بسبب ما اعتادوا على لبسه من زي شعبي.
هناك تساؤلات كبيرة تطرح عن سبب انحدار الدراما العراقية وغيابها، فهل تكمن المشكلة في غياب الكتّاب الجيدين، أم بسبب الافتقار الى ممثلين يشعرون بأهمية ومسؤولية ما يقدمونه؟.
أم أن تمويل الانتاج هزيل وضعيف ولا توجد جهة أو جهات مسؤولة حريصة على انتاج محتويات هادفة تسلط الضوء على انجازات الانسان العراقي.
أو تعرّف بشيء من تاريخه في التضحية من اجل بلده ومجابهة الانظمة الطاغية الظالمة، أو تُظهر صراع هذا الانسان مع الحياة في رحلة الكد وكسب الرزق.
هناك الكثير من القصص التي يمكن ان تعالج دراميا بما ينفع المجتمع ويعزز فيه القيم الايجابية بدلا من السلبية المفرطة التي تروج لها الاعمال الدرامية المشبوهة التي يتم انتاجها بشكل مريب وتبث على قنوات اعتادت على مهاجمة العراقيين ثقافيا واجتماعيا.