عامر بدر حسون

كلما وقفت امام المرآة للحلاقة، وتحسست انفي لسبب ما، تذكرت بطل مسرحية "الخرتيت" التي قراتها قبل نصف قرن.
فهو كان يتحسس انفه ليرى ان كان قد بدا بالتحول الى "قرن" ام لا؟!
ورغم ان اوجين يونسكو مؤلف المسرحية هو من افضل واشهر كتاب مسرح العبث، الا ان المسرحية كانت تتحدث، بواقعية، عن العراق او هكذا بدت لي يومذاك. وفي اواخر الستينات وبداية السبعينات كان العراق مثل تلك المدينة الصغيرة التي في المسرحية، بدليل انه لم يكن ممكنا تقديم المسرحية في العراق.
ففي تلك المدينة الفرنسية الصغيرة شاهد بعضهم خرتيتا (وحيد القرن) يتجول في المدينة فلم يصدق احد واستنكروا امكانية ان يتخرتت الانسان بإرادته.
لكن عندما ازداد عدد الخراتيت شيئا فشيئا اختلف الوضع تماما.. وصار الناس يتسابقون ليصبحوا بقرون وجلد خشن وسميك! ويونسكو كتب مسرحيته ضد الفكر الشمولي في زمنه: النازية والفاشية والشيوعية الستالينية.
وهو رصد المجتمعات غير المحصنة اخلاقيا او سياسيا وكيف انها تقع فريسة سهلة لكل من يدعوها الى الخرتتة! وبازدياد عدد المنتمين الى عالم الخراتيت باستخدام حجج مختلفة (كانت الثقافة السائدة في المجتمع توفرها بصيغ بسيطة ومختصرة) صارت الخراتيت الجديدة تهاجم البشر الطبيعيين بأسئلة اتهامية من نوع: - لماذا انت ضدنا؟ هل تظن انك افضل منا وان افكارك ارقى من افكارنا؟ وفي نهاية المسرحية تتحول المدينة بأكملها الى مدينة خراتيت يباهي افرادها بالقرون التي تستطيل فتغطي رؤوسهم وبجلدهم السميك الذي لا يتأثر بالمشاعر الانسانية او حتى بلمسة حب وحنان!
وعندما يقترح بطل المسرحية على حبيبته ان ينجبا طفلا ليحافظا من خلاله على الجنس البشري، تنفر منه الحبيبة ومن فكرته، وتبدأ بمرحلة التحول حتى تصبح "خرتيتة"! ويبقى البطل وحيدا يصرخ انه لو بقي الانسان الوحيد على الارض فسيبقى يدافع عن البشرية. وللتذكير فقط لابد من استذكار انه عندما وصل البعثيون للحكم يوم 17 تموز 1968 لم يصرحوا انهم خراتيت، وانما اختبأوا خلف كلمات عن القومية والوطنية للتعريف بأنفسهم.
وبقوا في هذا الحال لإسبوعين تقريبا حتى غدروا بشركائهم في الانقلاب في 30 تموز 1968 فاعلنوا عن بعثيتهم.. وانهم هذه المرة سيحاربون الامبريالية من خلال توحيد صفوف كل المعادين لها وللرجعية.
ولان مجتمعنا كان عليلا وجاهلا سياسيا، لدرجة انه لم يكن يعرف من السياسة شيئا سوى الصراخ بوجه الامبريالية وبناء الاشتراكية فقد كان من السهل انزلاقه لحالة الخرتتة الشبيهة بمسرحية الخرتيت!
وليس ثمة في الدنيا افقر، وقابلية للوقوع في الخديعة، من مجتمع تسود فيه فكرة وعقيدة واحدة! وبدأنا نسمع القصص والمبررات، وهي، ويا للغرابة، تكاد ان تكون مطابقة لأحداث مسرحية العبث.
سأنتمي لهم لكن قلبي سيبقى معكم!
لدي عائلة وانا معيلهم الوحيد والخ الخ..
لا شغل لي بالسياسة وتسجيلي معهم لتمشية الحال.
ثم تطور الوضع: ربما وجودك معهم سيغيرهم للأفضل فلماذا تفوّت هذه الفرصة؟
ثم: ما هو الفرق بينكم يا اخي؟ انتم تحملون نفس الاهداف التي يحملونها.
وكنا كأفراد نتعامل مع هذه الحجج بالمكابرة واللعثمة، فكل كلام نقوله يمكن ان يستخدم ضدنا لاحقا!
وهكذا دخل المجتمع في حالة خرتتة حقيقية، وصارت خراتيت هذا المجتمع وقياداته تسحق كل مختلف وترمي بالعمالة للإمبريالية حتى من يريد ان يبقى بعيدا عن السياسة.. فسياسة الخراتيت تقضي دائما بالتهام روح المجتمع وارغامه على السير كالقطيع الممتثل للراعي وكلاب الراعي!
في المسرحية، وهنا ايضا، كلاب الراعي تعني المثقفين المطبلين والمبررين للخرتتة.
واذا كنت تجيد الضحك الساخر والمرير في اجواء المهازل العابثة، فان امريكا (ام الامبريالية) لم تكن لها اية سفارة او تواجد في العراق (من العام 1967 وحتى النصف الثاني من الثمانينات) لكن كان في مجتمعنا الكثير ممن سجنوا او اعدموا بتهمة العمالة لأميركا او تحقيق اهدافها في العراق.
فاعتبر ما تقدم نكتة سوداء واضحك.. لانهم في "بلاد بره" يعتبرونها كذلك!
ولا أدعوك لتحسس انفك كلما وقفت امام المرآة للحلاقة (رغم اننا بحاجة للتأكد من هذا الامر اليوم اكثر من الماضي).
واستأذنك الان كي اتحسس انفي ويطمئن قلبي.
فقد صرنا نتغير كثيرا هذه الايام.. دون ان ندري!