العالم - خاص
في الوقت الذي تنشغل فيه العواصم العالمية بقضايا تغيّر المناخ والطاقة النظيفة، يقف العراق أمام أزمة وجودية تهدد حياته الزراعية والبيئية، بل وحتى استقراره الاجتماعي والسياسي. إنها أزمة المياه، التي لم تعد مجرّد انخفاض في المنسوب أو انحسار في دجلة والفرات، بل تحوّلت إلى ملف سيادي معقّد، يتقاطع فيه الطبيعي مع السياسي، والجغرافي مع الاستراتيجي.
تشير التقارير الصادرة عن وزارة الموارد المائية، وبيانات منظمات دولية، إلى أن العراق فقد أكثر من 50% من وارداته المائية خلال العقدين الماضيين. وقد تصل هذه النسبة إلى مستويات أكثر حدة إذا استمرت السياسات المائية للدول المتشاطئة على ما هي عليه.
انحسار الأنهر والروافد بات مشهداً مألوفاً، حيث تحوّلت بعض الأنهار إلى مجارٍ شبه جافة، وارتفعت ملوحة شط العرب إلى حدود كارثية تهدد الزراعة ومياه الشرب في البصرة وأجزاء من الجنوب.
تُعدّ تركيا وإيران الطرفين الرئيسيين في معادلة الشحة المائية العراقية، حيث أقامت أنقرة مشاريع ضخمة ضمن ما يُعرف بـ"مشروع جنوب شرق الأناضول" (GAP)، تضم عشرات السدود على نهري دجلة والفرات. أما إيران، فقد غيّرت مجرى عدة روافد تغذّي شرق العراق، أبرزها نهر الكارون، ما أثّر بشكل مباشر على محافظات ديالى وواسط.
ورغم المحاولات الدبلوماسية المتكررة، لم تُثمر أي من جولات التفاوض عن اتفاق دائم أو عادل لتقاسم المياه. وغالباً ما تُستخدم المياه كورقة ضغط سياسي، خاصة في أوقات التوترات الإقليمية، وهو ما يُدخل العراق في دائرة تسييس أزمة بيئية ينبغي أن تكون إنسانية بحتة.
الانعكاسات الداخلية للأزمة المائية متعددة وخطيرة. فالعراق، الذي كان يُعرف تاريخياً بأنه "بلاد الرافدين"، بات مهدداً في أمنه الغذائي. آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية تُترك سنوياً دون زراعة، وتُجبر عشرات العوائل الريفية على الهجرة نحو المدن، مما يفاقم الأعباء على البنى التحتية ويزيد نسب البطالة والتوتر الاجتماعي.
كما تتزايد النزاعات العشائرية حول الحصص المائية، وتنتشر الآبار غير المرخصة، ويُلاحظ استنزاف عشوائي للمياه الجوفية، ما ينذر بكارثة بيئية لا تقل خطورة عن الجفاف السطحي.
لا يخفى على أحد أن العراق تأخر كثيراً في إدارة هذا الملف المصيري. فالبُنية المؤسسية لقطاع المياه ما تزال تقليدية، وتعتمد على أساليب ري قديمة تستهلك كميات هائلة من المياه، دون كفاءة حقيقية. كما لم تُفعّل الاتفاقيات الثنائية بشكل جاد، ولا توجد حملات توعية فعّالة لترشيد الاستهلاك، سواء على مستوى الأفراد أو المزارعين.
الحل يبدأ من الداخل، عبر تحديث شبكات الري، وتطوير تقنيات تحلية المياه، وإعادة تدوير المياه الرمادية، وتبني دبلوماسية مائية قوية تستند إلى القانون الدولي والضغط الجماهيري والإعلامي.
الأزمة المائية في العراق لم تعد احتمالاً، بل هي واقع يومي يهدد أجيال الحاضر والمستقبل. إن لم تتحرك الدولة بجدّية وعلى كل المستويات—الداخلية والدولية—فإن العراق ماضٍ نحو كارثة بيئية واجتماعية قد تفوق في آثارها كل أزمات العقود الماضية.
لقد آن الأوان أن يُعامل ملف المياه كقضية أمن وطني لا تقل شأناً عن أي ملف سيادي آخر. فبدون الماء، لا زراعة، ولا استقرار، ولا حياة.