أحمد المهنا
هل هذه تحاملات ام مقالات؟ ذلك كان تساؤلي او انطباعي عندما تسلمت يوما تحرير صفحة رأي في احدى الجرائد العربية. ذلك ان اغلب «الوارد»من المقالات كان بالفعل تحاملات، تعج بالاحتقان، وتفتقد الى الحنان. هذا من حيث اللهجة. واللهجة ان لم تكن المضمون فهي تقوده.
المشكلة ان المقالات – التحاملات ظاهرة شائعة في الصحافة العربية. وهي احد مظاهر اللاعقلانية ضاربة الجذور في ثقافتنا. وفي تحليله للعقلية العربية خلص المؤرخ جواد علي الى ان العرب عامة يستوون في الايمان بما سماه «عقيدة الغضب» او في الصدور عنها. وانت ترى ان قصيدة هجاء من نوع واحدة اشتهر بها مظفر النواب في مسبة الحكام العرب، ذاعت من المحيط الى الخليج. ولكن قصيدة اخرى عميقة ودافئة له، مثل»شكد نده نكط علضلع» لا تتجاوز شهرتها باب الدار. وهكذا هي حال المفارقة دائما بين كتابات الغضب وبين ما اسميه كتابات الفهم.
لماذا نكتب؟ نكتب لان لدينا شيئا نريد ان نقوله. هذا اولا. والكاتب يستوي في ذلك مع جميع الناس. فكل انسان لديه ما يقوله. والفرق بين من يكتب وبين من لا يكتب هو ان الاول يملك عدة الكتابة والاخر يفتقدها. ولكن التميز لا يقع في امتلاك العدة. يستطيع مثلا، رسام متمكن من العدة رسم بورتريه مطابق للوجه او الشخصية المرسومة، كما يطابق الفوتوغراف موضوع صورته.
لكن اين الفن في ذلك؟ الفن يقع في منطقة اخرى تتكون من احساس الفنان بشيء او اشياء في الشخصية المرسومة، ومن اطلاق ذلك الاحساس خيالا ما لدى الفنان، يحاول من خلاله ترجمة ذلك الاحساس في اللوحة. هذا الخيال هو وسيلة الفنان في محاولة مقاربة او فهم وبالتالي تكوين موضوعه. وهذا ينطبق على كل اعمال الروح التي تتخذ لها اشكالا من التأليف في الفن والادب والفكر. كل من هذه الاعمال يمثل اداة من ادوات فهم الناس والاشياء.
ان اعمال الروح من كتابات او ابداعات هي في المقام الاول حوارات مع اخرين. والتحامل او الغضب او الاحتقان وسائل غير صالحة للحوار. انها وسائل تنفيس بدائية نتشارك بها مع كل المخلوقات الحية. وهي تنتابنا جميعا في هذه الحالة او تلك. هي مشاعر طبيعية في مقامات معينة ليس بينها ذلك المقام الذي يتخذه المبدع او الكاتب وهو جالس في مشغله ليتأمل ويفهم ويقضي في شؤون الناس والدولة والمجتمع. هناك حصيلة فهم يبلغها المفكر او الفنان. وهو يقدمها للناس ليشتروها مثلما يقتنون البضائع. المدفأة تخدم في الوقاية من البرد. خدمة الفن والادب ترقية الاحساس، وما يترتب على هذه الوظيفة من نبذ للخشونة والعنف والقبح. وفي النتيجة فان بضاعة الكاتب والمبدع هي المعنى وهي الجمال. فما هي الصلة بين ذلك وبين التحاملات؟ الاولى تسهم في اغناء العالم بالمعنى. والاخرى تسهم في افراغ العالم من المعنى.
ان مقالات وابداعات التحاملات تتحمل وزر الكثير من مصائب العراق والعالم العربي. قال الشاعر الالماني هاينه ان الافكار التي يطرحها استاذ من مكتبه الهادىء قادرة على ابادة حضارة بكاملها. والفكر المتحامل صنع الاهوال في تاريخ العالم. ومنها احداث لابد ان كل عراقي يخجل من ذكراها اليوم، مثل تلك الوقائع التي صاحبت ثورة 1958. كلمات التحامل صنعت تلك المجزرة. ومصنع التحامل العراقي خلافا لبقية المصانع لم يعطل وظل منتجا.
متى نهدأ؟